السبت، 31 مارس 2012

كلمات والاطفال: بعض النتائج التجريبية

هناك تجربة تكررت مع طفلين في نفس السن تقريباً (9، 10). حدثتا في ظروف متشابهة، ولعل من المفيد أن احكيهما للإفادة. حفاظاً على الخصوصية لن اذكر مع من جربت، لكن ظروف التجربة كانت كالآتي:
  • لم تكون دروساً منتظمة بل على فترات متباعدة (ولعل هذا هو السبب الاساسي في المشاكل التي حدثت).
  • كنت اعلمهم شفاهة بلا مرجع مكتوب.
  • لكن كل منهما كان لديه نسخة مطبوعة من كتاب تحقيق الذات في كتابة البرمجيات.
لم تكن التجارب بمنهج علمي (many free variables, no control group, insufficient sampling) لكني ارى المعلومات مفيدة جداً.
كان المثال الذي احاول شرحه دائماً هو برنامج "التحية"، الذي يسأل المستخدم عن اسمه ثم يرد بقول "مرحباً يا فلان". وفي الحالتين كانت نفس المشاكل تكرر نفسها.

1- المشكلة الاولى في موضوع analytical thinking، كان كل منهما يحاول كتابة البرنامج المطلوب عن طريق تخمين مكوناته من البرامج السابقة. فكان البرناج يبدو كخليط من مجموعة الامثلة التي قلتها له في نفس الجلسة او الجلسات السابقة. اعتقد اننا هنا في نقطة جوهرية: لكي تعلم الطفل، او اي شخص، كيف يبرمج لابد أن يدرك ماهية البرمجة نفسها: وهي أن تضع هدفاً محدداً ثم تفكر كيف تعبر عن ذلك الهدف عن طريق الاوامر الاساسية الموجودة في اللغة.

حاولت مع احد الطفلين (واشعر انها محاولة جيدة) ان اصف ذلك الموضوع عن طريق مثال اخذته من قصة "مروة والبرمجة الهيكلية"، عن الروبوت الذي لابد ان تعلمه مروة كيف يأخذ الكوب إلى المطبخ فلابد ان تعطيه ادق ادق التفاصيل. كان الحوار مثمراً وبدأ هو يستنتج فيقول "يعني لو نسيت وقلت له حوّد شمال بدل يمين، وكان الحمام هناك، حيخش الحمام بدل المطبخ!" وقد رأيت تشجيعه فقلت "أه! ولو وصفت له الكباية غلط ممكن يمسك الحلة بدالها". يلاحظ انني حاولت ان اجعل الشبه دقيقاً: الألي لا يفهم "مطبخ" أو "كوب" لكنه يفهم "ابحث بالكاميرا عن جسم حجمه كذا"، "تحرك إلى الامام"، "امسك الجسم الموجود امامك بيدك"...وان هذا يكافيء الاوامر المكتوبة بالازرق في لغة كلمات.

موضوع الconcepts عن طريق الحكايات اقوى مما ظننت، ويستحق المزيد من البحث. افكر في عمل video game بها مروة والروبوت، وعليك التحكم فيه بالاوامر ليقوم بأعمال المنزل. ربما يكون هذا اكثر تصويراً من اوامر "اطبع" و"اقرأ".

2- في التجربتين الطفل لم يكن مدركاً جيداً للsyntax الخاص بكلمات، اعتقد انه كان من الافضل بكثير عمل reference من ورقة واحدة للsyntax الخاص بالاوامر الخاصة بكل درس.

او ربما طريقتي هي الخاطئة، وكان ينبغي ان اشرح بطريقة الsyntax أولاً بدلاً من الconcepts أولاً. إن معلم الموسيقى يقضي وقتا طويلا في البداية يدربك على كل نغمة على حدى، وكذلك معلم الكاراتيه يدربك على نفس الحركة مئات المرات قبل ان تعرف اصلاً كيف تستخدمها في القتال.

ينبغي إجراء تجارب اخرى من دروس مبنية على تمارين مكثفة على الاوامر قبل التفكير في البرامج، مع تسجيل الملاحظات.

3- دائماً هناك مشكلة في امر اقرأ والمتغيرات. اولاً: كلمة "متغير" تمرّ دائماً من اذن وتخرج من الاخرى. هناك مصطلحات اكثر ثباتاً من "متغير": حين اقول انها اسماء فإن الامر يكون مقبولاً، وحين اضرب امثلة مثل "تيكيت مكتوب على الصندوق المخزن فيه قيمة" فإن وجه الشبه ليس دائماً مستخدما عملياً (اقصد استخدام تشبيه التيكيت في تحليل سلوك البرنامج) لكن على الاقل التشبيه نفسه مفهوم.

لا احب كلمة متغير كثيراً...إنها تركز على صفة جانبية (انه يمكن أن يتغير) بينما الاهمية الكبرى للمتغير انه اسم يدل على قيمة.

في الfunctional programming، يطلقون على هذا النوع من المتغيرات name bound to a cell..أي ان الاسم - الثابت - يشير إلى موضع تخزين، لكن من الممكن ان اغير ما اخزنه في ذلك الموضع. يعني من الآخر اخذوا تشبيه "اسم على صندوق" وجعلوه مصطلحاً علمياً رسمياً. هذا افضل؛ سأحاول تجنب موضوع "المتغير" بعد ذلك.

يلاحظ هنا كيف تفيد خبرة الشخص البرمجية في التعليم: إن افضل معلم برمجة في نظري هو شخص يعرف لغات كثيرة متنوعة، ويقدر على كتابة compiler متى شاء، ويفهم في علم لغات البرمجة PLT. لذلك يجدني الناس احثهم حثاً على هذه العلوم لأن دورها اكبر بكثير في نهضة المجتمع مما يبدو.

أيضاً في هذه الكود فإن القطعة البرمجية "أ" لها معنيان:
اقرأ أ
اطبع "مرحبا يا "، أ

المعنى الأول أن "أ" هو مكان التخزين الذي يجب ان تضع فيه ما قرأته من المستخدم. المعنى الثاني هو القيمة المخزنة في مكان التخزين هذا. بصورة رسمية اكثر، المعنى الأول memory address والثاني memory content. هناك لغات مثل لغة لوجو تميز نحوياً بين المعنيين:

... معناها المتغير نفسه

... معناها القيمة المخزنة فيه.

المشكلة اني لا اريد عمل هذا في كلمات لأنها مصممة لتكون سهلة للاطفال لكن قوية بما يكفي ليمكن عمل برامج قوية/تجارية بها، فلابد ان تشبه إلى حد ما اللغات التقليدية. ربما يمكنني عمل لغة "Kalimat mini" للاطفال فقط وتكون اسهل في التعلم. سأفكر.

ملاحظة اخرى: يبدو ان الافضل اعطاء المتغيرات اسماء مجردة مثل "أ"، "س"، بدلا من اسماء ذات معنى مثل "الاسم" أو - وهذه مشكلة كبيرة - "سامح" أو "كريم" ..هذا يؤدي دائماً للبس بين اسم المتغير ومعناه.

المفاجأة هي أنه - على ما يبدو - الاطفال اقدر مما تخيلت على التعامل مع التجريد. مثلاً حين كنت اشرح الامر أ=12 قلت ان أ هو اسم، وان 12 هو المسمى، أي الشيء الذي هذا اسمه. وجدت الامر مقبولاً وكنت استخدم كلمة "مسمى" بحريّة بعد ذلك.

إننا نتكلم هنا عن العلاقة العكسية..أي فكرة ان مثلاً مخدوم فلان هو الشخص الذي يخدمه فلان. إن العلماء يدركون تجريبيا النطاق العمري الذي يقدر الاطفال فيه على فهم هذه العلاقة وامثالها (انظر نظريات Piaget في مراحل التطور الفكري للطفل) ولابد ان يستفاد من هذه النظريات في وضع المناهج للاطفال، برمجية كانت او لا.

ايضاً مثال لقدرة الاطفال على التجريد: انني في النهاية قمت بعمل رسمة للذاكرة بعمودين: عمود للاسم وعمود للمسمى، وعند عمل trace للبرنامج استخدمته كنموذج للذاكرة ولشرح الsemantics الخاص بالاوامر: امر اقرأ أ يأخذ قيمة من المستخدم، ويكتبها بحيث تكون أ في العمود الأول والقيمة المقروءة في العمود الثاني. عند استخدام "أ" في امر اطبع يبحث عنها في العمود الأول حتى يجدها، ثم يأخذ ما بالعمود الثاني ويطبعه. كان لديّ بعض التوفيق في هذا.

نقطة اخيرة، انني استخدمت هذا التشبيه بتوفيق كبير: "تخيل انني قد وضعت علامة - × على عمود نور مثلا - في الشارع واتفقت مع شخصين..الأول سيأخذ الجاموسة ويربطها بجانب هذه العلامة. أما الآخر فقلت له أن يذهب لتلك العلامة وحين يجد شيئاً مربوطاً هناك يأخذه ويذبحه".

ضربت هذا المثل لأوضّح لماذا كان ينبغي استخدام نفس المتغير في السطرين في برنامج "اقرأ كذا/اطبع مرحبا يا كذا"، وصار الامر هكذا واضحاً جداً!

إن الشخص الاول لا يعرف ماذا سيحدث للجاموسة، فقط يعرف اين يتركها، بينما الثاني لا يعرف ما سيجد حين يصل للعلامة: قد تكون جاموسة او ماعز او خروف، لكن سيعرف ماذا سيفعل بها، وكان لابد من قائد، مخطط ، مبرمج، هو الذي يربط بين الشخصين عن طريق العلامة الثابتة. هذه هي فكرة البرمجة كلها تقريباً.

في بداية طرحي للمثال كانت العلامة هي عمود النور نفسه، لكن الطفل الذي كنت اعلمه اقترح أن تكون علامة × على احد العواميد لتمييز اي عمود هو. هذا تشبيه ادق لفكرة "اسم المتغير"، أليس كذلك؟ :)

السبت، 24 مارس 2012

مروة والبرمجة الهيكلية


(كنت اريد ان اضع هذا البوست في صورة قصة مصورة، لكن كان الموضوع سيأخذ وقتا اطول مما ينبغي، لذلك سأضعه في صورة سيناريو قصة، ويمكنك أن ترسمها أنت لو اردت، فقط اذكر مصدر القصة لو فعلت ذلك).

= 1 =
(في المنزل)
مروة: أيها الآلي، خذ هذا الكوب إلى المطبخ.
الآلي: ؟؟

= 2 =
مروة: الم تسمع؟ هيا اذهب إلى المطبخ بالكوب.
الآلي: ؟؟
مروة (بالونة حوار أخرى): يوووه

= 3 =
مروة: استمع للأوامر؛ التفت في الغرفة حتى تعثر على عنصر اسطواني ارتفاعه حوالي 7 سنتيمترات، قم بتسميته س، استحوذ على س ثم تحرك بزاوية 35 درجة من الشمال مسافة متران، ثم بزاوية 87 درجة اربعة امتار. اترك س عند اقرب سطح يرتفع متراً عن الارض. نفذ.
الألي: بيب! (مؤثر صوتي: ورررررر).
ملاحظة للرسام: ربما يمكن تقسيم هذا الجزء على كذا صورة.
= 4 =
تعليق: "وتعلمت مروة كيف تتعايش مع الآلي في وئام."
(الصورة: الألي يكنس الارض ومروة توجهه وهي تشير هنا وهناك)
مروة: والآن ابحث عن كل مساحة لونها داكن ومساحتها حوالي 10 سنتيمترات مربعة، حرك المقشة عليها يمينا ويساراً.
الآلي (تعبير وجه يبدو كأنه سعيد): بيب بيب.

= 5 =
نفس المشهد في وسط الكنس، ام مروة تدخل.
الأم: ماذا تفعلين يا مروة؟
مروة: اجعل الألي يكنس.
= 6 =
الام: ولكن هذه ليست الطريقة المثلى لذلك.
الام: أيها الآلي، هل لديك القدرة على تعلم كلمات جديدة؟
الألي: بيب!
= 7 =
الام: حسناً، تعلم كلمة "المشي". التعريف: هي الحركة من نقطة البداية إلى نقطة يحددها لك المستخدم بسرعة 15 متر في الدقيقة.
الأم: والآن كلمة كوب معناها....
= 8 =
تعليق: وبعد مدة
الأم: والآن جربي ان تعطيه امراً
مروة: حسناً...أيها الآلي، احضر لي حلوى من الثلاجة.
الأم: ...
= 9 =
الالي يسير خطوة ثم يتعثر في لعبة على الارض ويسقط
مؤثر صوتي: طراخ
(الأم تضح راحة يدها على وجهها بتعبير "يا للكسوف")
= 10 =
الام: حسنا أيها الآلي..سوف اعدل امر "المشي"، أولا تعلم كلمة "عقبة"
مروة: لماذا كل هذا يا امي؟ انا اعرف بالفعل كيف اجعل الآلي يفعل ما اريد.
= 11 =
الام: لكنك تبذلين مجهوداً كبيراً وتكررين نفسك كل مرة يا ابنتي.
الام: كما ان كل تصرفات الآلي قريبا جداً من بعضها مع اختلافات بسيطة كل مرة.
مروة: ؟؟؟
= 12 =
الأم: المشي مثلاً هو نفس الفكرة، مع اختلاف المكان الذي سوف يسير اليه! ينبغي وقتها ان نقول له فقط هذه المعلومة ثم نتركه يستفيد مما تعلمه سابقاً ليسير إلى الهدف المطلوب.
مروة: أها!!
= 13 =
مروة: انا سأجرب! ايها الآلي...لتعرف الثلاجة هي جسم ابيض كبير مستطيل ارتفاعه 8 قدم ويفتح من المقدمة
الأم: يادي الثلاجة.
= 14 =
(صورة كبيرة)
تعليق: وهكذا صارت الحياة مع الروبوت اسهل بكثير...
مروة: اغسل الاطباق!
مروة: رتب الكتب!
مروة: اذهب بالطبق للمطبخ

الآلي (اكثر من رسمة له في نفس الصورة كناية عن الحركة السريعة كل رسمة في صورة freeze frame): بيب! بيب! بيب!
الأم تقرأ كتاباً من بعيد وتشاهد، ترفع اكتافها قليلا وتبتسم بتعبير وجه يدل على "هي دي بنتي، اعمل ايه".

ملاحظة: لو شعرت ان هذه القصة ساذجة اكثر من اللازم فهذا متعمد: قصدت فعلاً ان تكون تقليداً للقصص التربوية القديمة التي تأتي في صورة "الابن يفعل شيئا خطأ، الأب ينصحه، الابن يستفاد من النصيحة"، بالنكت المتكررة عن شقاوة الطفل وكل شيء. طبعاً المفارقة هنا ان الابنة عبقرية برمجة كما هو واضح لكن مازالت القصة في الصورة الاب الذي ينصح :]

النهضة بين التصوير والمنطق

اقرأ الآن كتاب "التصوير الفني في القرآن" لسيد قطب، لكن ليس موضوعنا اليوم البلاغة القرآنية، بل فكرة التصوير نفسها كوسيلة للتخاطب البشري، مع بعض الافكار المحيطة بها. الموضوع شيق وسيعجبك لكنه يحتاج لبعض التمهيد، أرجو ان تصبر على قراءة هذا المقال للنهاية عزيزي القاريء :)

مشكلة انني كمبرمج قد ظللت فترة طويلة حياتي هي المنطق والabstraction. كل شيء مصنف بدقة إلى فئات وفصائل ومجردات. انعكس ذلك على اسلوبي في الحديث والكتابة ايضاً.

إن المبرمج يحب جداً ما يسمى التجريد. تجده في البرنامج يتعامل مع سيارة، سيارة نقل، موتوسيكل، فيقول "هاه! إن هذه الاشياء ما هي إلا مركبات!" ثم يبدأ بعمل صنف جديد اسمه مركبة، ويضع فيه الصفات المشتركة بين المركبات كلها، ويقول ان الموتوسيكل والنقل وغيره يندرج تحت هذا الصنف. ثم يكتشف ان المركبات، المأكولات، الملبوسات هي أشياء تباع وتشترى في برنامجه، فيختلق صنفاً جديداً اسمه "سلع" ويدرج الفصائل السابقة تحته، وهكذا حتى تجد ابنية عالية متعددة الطوابق من التجريد.

هذا شيء جيد إن كنت تتعامل مع آلة، لكن مع بشر؟ التجريد في التفاهم البشري؛ في الكتب، الابحاث العلمية، التعليم (وخاصة التعليم!!) يؤدي إلى ارتفاع كثافة المعلومات بطريقة غير عادية، مع انخفاض سهولة فهم هذه المعلومات. انظر إلى الآتي:

هنا تجد ان قانونا معقداً مكتوب في مساحة صغيرة (ارتفاع كثافة المعلومات) لكن مثل هذه القوانين كانت كابوسي في الجامعة، لا ادري من اين جاءت ولماذا جاءت (انخفاض سهولة الفهم).

انتشر هذا الاسلوب أيضا في كتب الدولة الاسلامية القديمة. انظر مثلاً لهذا النص من كتاب "تهافت الفلاسفة" يصف فيه آراء الفلاسفة اليونانين تمهيداً للرد عليها (لست متأكد من صحة وضعي لعلامات الترقيم):

...قولهم يستحيل صدور حادث من قديم مطلقاً؛ لأنا إذا فرضنا القديم ولم يصدر منه العالم مثلاً فإنما لم يصدر لأنه لم يكن للوجود مرجح، بل كان وجود العالم ممكناً إمكاناً صرفاً...فإذا حدث بعد ذلك لم يخل إما أن تجدد مرجح أو لم يتجدد، فإن لم يتجدد مرجح بقي العالم على الإمكان الصرف كما قبل ذلك، وإن تجدد مرجح فمن محدث ذلك المرجح؟ ولم حدث الآن ولم يحدث من قبل؟ والسؤال في حدوث المرجح قائم...

هل فهمت شيئاً؟ ولا أنا.

انظر الآن إلى أي مقال من مفكر حديث، او paper علمية، أو،...أو..تجد ان الموضوع يراعى فيه الكثافة، الدقة، المنطق، لكن ليس بالضرورة صالحاً للاستهلاك البشري.

او انظر مثلاً لهذه الجملة التي غالباً قد قرأتها في كتاب النحو في المدرسة:
لتحويل الفعل الماضي للمبني للمجهول يضم أوله ويكسرما قبل آخره، ولتحويل المضارع يضم أوله ويفتح ما قبل آخره .

كنت اقول لنفسي: لماذا يتعبون نفسهم في قول هذا؟ لماذا لا يقولون "الفعل مثل أكل يحوّل إلى أُكِل، ومثل يضرب يصير يُضرَب"، وانتهى الأمر.

نعود لفكرة التصوير الفني، في القرآن او في غيره. ما هي؟ لن اقدم تعريفاً علمياً دقيقاً، لكن التصوير بشكل عام يتعامل مع الحواس لا فقط العقل. مثلاً من كتاب سيد قطب: "...واشتعل الرأس شيباً". إن الجمال هنا ليس فقط في اساليب البلاغة التقليدية، ولكن لأنه يجعل القاريء يتخيل شيء مثل animation sequence مثل رأس اسود الشعر فجأة ...ششششش... اشتعل شيباً!

نفس الموقف في "وفجرنا الأرض عيوناً"..تشعر فعلاً بانفجار فجأة وخروج الماء من كل جانب كأنك تراه - درووووم - بالمؤثرات الصوتية. وهنا نجد شيئاً مهماً: لقد ابتعدنا عن التجريد، ودخلنا في الصور الحقيقية المجسدة.

لقد اكتشفت منذ مدة - انا المبرمج الذي يحب التجريد، أن التجريد وسيلة جيدة للتعبير الدقيق المحكم لكن ليس التعبير سهل الفهم والتصور. وقد تحدثت في مقالات سابقة للمدونة عن هذا. كتبت مثلاً مقالاً قصيراً اسمه "عن الكتابة" ملخصه هو العبارة الشهيرة "show, don't tell"..
يقول الروائيون: لا تقل "وغضب احمد غضباً شديداً"، بل قل "حين سمع احمد الخبر، القى القلم بعنف نحو الجدار".

وكتبت في مقال نقد فيديو "انكسار الضوء" لتحرير اكاديمي أن هناك دور للفيديوهات التعليمية؛ أن تفهم العين مع الدماغ. نحن نقرأ عن الموجات والجاذبية والتفاضل، لكننا في الأغلب لا نراها. وكتبت في مقال اسمه "فلتكن اشياء حقيقية" كيف ان المجتمع ينسى اسباب السعادة الحقيقية ويجري وراء الاسباب الرمزية..الموضوع مؤثر فيّ جداً كما ترون.

يتحدث الكاتب الشهير جورج اورويل (مؤلف 1984) عن دور اللغة في تأييد الطغيان السياسي، وأنه كلما زادت اللغة جموداً وبعداً عن المعاني الثرية المتنوعة كان اسهل السيطرة على عقول الناس. ونحن نرى هذا بالفعل (مثلا) في المصطلحات العسكرية الامريكية الحديثة. إن مصطلح مثل AWOL يعني اختفاء مفاجيء للجندي بلا سبب معروف. لكن هذا الاختصار متجرد من كل صورة يمكن ان يتخيلها المستمع: انه لا يرسم لك الجندي التائه ولا يعطيك فرصة ان تعتبره بشراً.

يقول اورويل ان الكلمات احيانا تسيطر هي على المعنى فتجعل الكاتب يغير مقصده، لأنه يريد استخدام كلمة معينة فيطوع المعنى للكلمة وليس العكس. ما الحل في رأيه؟ يقول:
Probably it is better to put off using words as long as possible and get one's meaning as clear as one can through pictures and sensations. Afterward one can choose -- not simply accept -- the phrases that will best cover the meaning, and then switch round and decide what impressions one's words are likely to make on another person.

إنه يتحدث مرة اخرى عن الصور والاحاسيس..فهل ينفذ شخصياً كلامه؟ انظر لهذه الجملة على لسان احد الشخصيات في قصة 1984: "إن أردت رؤيةً للمستقبل، تخيل حذاءاً ثقيلاً يدوس على وجه بشريٍ للأبد".

بالمناسبة، علم Computer science على ما يبدو من انه علم مطلق فإنه في الواقع مليء بالتشبيهات والتصويرات، وهو نقطة اخرى تضاف إلى الاساب التي تجعلني فخوراً بانضمامي لهذا العلم من قريب او بعيد..انظر إلى الصور الخلابة:
  • الخطأ البرمجي اسمه bug كالحشرة.
  • دائرة نقل البيانات اسمها Bus كالأتوبيس.
  • هياكل البيانات اسماؤها مشتقة من صور طبيعية: الشجرة، الطابور، الكومة، الرزمة، tree/queue/heap/stack.
وإني لسعيد بهذا الجانب من تخصصي :)

لماذا احكي لك عزيزي القاريء كل هذه الامثلة والتحليلات (اقصد لاسباب غير انه موضوع جميل احب التحدث فيه)؟ لسبب بسيط جداً: لأنك إن أردت أن تكون رجل نهضة أو امرأة نهضة، أو أردت أن تساعدني في مشاريعي، فإن التصوير والهروب من التجريد سيكونان اصدقاء لك في الرحلة.


هل تريد ان تطور التعليم؟ انظر للمعادلة الاحصائية في أول المقال وفكر: كيف يمكن شرحها بطريقة جديدة..فكر في آلة حاسبة تأخذ بعض البيانات وتحسب الانحراف المعياري بطريقة مرئية، ثم هناك بعض الازرار لتغيير شكل البيانات..مثلا ماذا يحدث لو غيرت المتوسط (المرموز له بحرف x فوقه خط) كيف سيتأثر الرسم؟ ماذا لو لم يكن التعبير بين الأقواس مرفوعاً للاس 2؟ لماذا اخذت الجذر الربيعي في النهاية وقسمت على N-1؟

نحن نردد دائماً شعار ان العلم ليس فقط حفظ ولكن لابد ان يعرف الطلبة الفائدة مما يتعلمون ومن أين جاء...الخ. هذا يأخذ صور كثيرة. في حالة الانحراف المعياري مثلاً يمكن ان نتحدث عن تطبيقاته العملية، واثبات القانون، لكن نحتاج أيضاً إلى حس بشري بديهي عن لماذا يأخذ القانون صورته التي يأخذها ولماذا عرّفناه هكذا. ربما يوجد هذا الحس عند شخص احصائي استخدم القانون سنين طويلة في عمله، لكنه ليس عند الطالب المبتديء. هل هناك طريقة لنقل ذلك الحس كما ننقل التمثيل الرياضي؟ لابد هنا ان ننظر في علوم كثيرة مثل اللغة والتصوير والتبصير visualization وتأثير الحواس في المعنى. وأن نعترف أن التجريد ليس كل شيء. انظر إلى مشاريع Kill Math لتر بعض الافكار في قتل التجريد، وهو المصدر الذي أخذت منه فكرة القوانين الرياضية وتجسيدها :)

(لمزيد من الامثلة الشيقة، انظر Visual proofs أو Proof without words)

أو مثلاً عند تعليم الاطفال البرمجة، أنا لا اريد تعليمهم المباديء البسيطة فحسب بل المباديء المتقدمة (تمهيدا للتفكير الحوسبي وكل هذا الكلام). فكر في مبدأ صعب مثل covariance. في لغة Scala - وهي لغة عبقرية - يمكن التعبير عن الcovariance هكذا:
class List[+T]...

وهي كما نرى طريقة دقيقة ومختصرة (كثيفة المعلومات) لكن شرحها لمبتديء ليس سهلا بدون حكاية طويلة عن الcovariance.

لم اضف هذه المزية - اقصد covariance - للغة كلمات بعد، لكن لو اضفتها ستكون غالبا هكذا:
فصيلة قائمة من ت:
قائمة من تفاحة هي قائمة من فاكهة
....باقي التعريفات
نهاية

اعتقد ان كثير منا قد عرف معنى الconvariance الآن :)

قد يعترض قاريء ويقول ان الاسلوب ليس عاماً بما يكفي، وليس مجرداً بما يكفي..أي لغة برمجة تلك التي تعتبر - في سياق معين - ان "تفاحة" و"فاكهة" هي كلمات مفتاحية يفهمها الcompiler؟ اقول: وما المانع؟

وانه يمكن ان نذهب ابعد بكثير، ويكون في المستقبل مجال جديد من "البرمجة الحسية" بأن تكتب البرنامج كخليط من الكود والرسومات التوضيحية والامثلة. أو ان تأخذ مكونات برمجية مرئية تستخدمها..هل تعرف لعبة age of empires؟ تخيل لغة برمجة مثل هذا لكن بدلا من الفلاحين والفرسان هناك مكونات فرز بيانات ورسم بيانات وتخزين بيانات، وانت تعطيها الاوامر كما تعطي الاوامر لجنودك: انت أيها العامل تنقل البيانات إلى "الطاحونة" التي تستخرج منها الجزء المطلوب، بينما أنت ترسمها، ...الخ. ربما يعطي هذا للمجتمع نوع من "الديموقراطية الحوسبية" بحيث يمكن لفئة كبيرة جداً من المجتمع أن تبرمج.

أيضاً مشاريع النهضة تحتاج إلى ان يفهمها المجتمع. وقد كتبت كثيييراً عن التفكير الحوسبي ومازال القليل هو الذي يفهمه، إلى أن قيل لي: تحدث عن آثاره الحقيقية على المجتمع.

اوه! كأنني كنت نائم وافقت! انا اقول للناس كلها "اظهر ولا تخبر"، ثم اجد نفسي اخبر الناس عن التفكير الحوسبي ولا اظهره لهم؟ لأ عيب يا محمد :)

لهذا تراني بعد هذا الاكتشاف كتبت مقالا آخر فيه اخذ كل المواد الدراسية المصرية واحوسبها. هكذا يرى القاريء اثراً حقيقياً للتفكير الحوسبي على التعليم، وإن شاء الله بعد ذلك يمكن كتابة مقالات اخرى عن دور التفكير الحوسبي في تحديث الصناعة يتناول ليس فقط النظريات بل السيارات والاسمنت والشيبسي...أشياء حقيقية!

وبعد، أرجو أن أكون قد أضفت سلاحاً فكرياً جديداً لك عزيزي القاريء. اتمنى لك التوفيق في رحلة النهضة!

الخميس، 22 مارس 2012

برنامجي الانتخابي (2): السياسة التعليمية

(هذا هو الجزء الثاني من سلسلة "ماذا لو كتبت برنامجاً انتخابياً؟"، الجزء الأول هنا عن الاقتصاد)

إن أي برنامج رئاسي حدث في الوطن العربي قد فشل في نقطة اساسية: مازلنا متأخرين علمياً كثيييراً عن الغرب. لا يكفي هنا ان نقلدهم في مدارسهم...الخ، بل يجب البحث عن طرق تغيير جذري لقلب الازمة التي نمر بها حالياً. إن عوائق النهضة العلمية في مصر لكثيرة:
  • عدد الطلبة المهول ونقص الكفاءة في المدرسين.
  • غياب العلم كقيمة في المجتمع نفسه. التعلم من اجل الامتحان.
  • طرق التعليم القديمة والتي نعرفها جميعاً ونعرف عيوبها.

هيا نحل مشكلة "العدد"

ما السبيل إلى تغيير هذا الشكل؟ بالنسبة لموضوع "عدد الطلبة المهول ونقص كفاءة المدرسين" نحتاج إلى تدريب اكبر عدد ممكن من المدرسين الأكفاء بطريقة repeatable بحيث يمكن تطبيقها في أي محافظة بقواعد معروفة. أيضاً نحتاج إلى البحث في وسائل حديثة لخفض تكلفة بناء المدارس بحيث نبني الف مدرسة بالميزانية التي يعتاد ان يبنى بها مائة.

يمكننا هنا ان نقوم بالخطوات الآتية:
  • إنشاء برنامج الخبرة التعليمية المتراكمة، وهو برنامج يقوم دورياً برصد افضل المدارس نتائجاً في مصر (وخارجها) وتسجيل خبرتها بصورة يمكن تكرارها في المدارس الاخرى. بعد عدة لفات iterations من هذا البرنامج قد نكون كونا شيئاً مثل "دليل الدولة والافراد لفتح المدارس النموذجية" يراجع ويحدث باستمرار.
  • إنشاء برنامج الخبرة التعليمية المبثوثة، وهو يبحث - مرة اخرى - عن افضل المدارس في مصر ويرسل معلميها، بعد بلوغهم مرحلة معينة من الخبرة والمنصب، في رحلة انتشار عبر المدارس الاخرى في وظائف استشارية او ادارية لينقلوا لها خبرتهم. العكس صحيح: يمكن ارسال صغار المعلمين من المدارس العادية في برنامج تدريب mentoring لستشربوا ثقافة التعليم المتطور المضبوط من تلك المدارس.
  • الدراسة الجدية لتخفيض تكلفة انشاء المدارس وصيانتها باستخدام وسائل تكنولوجية ورقابية واجتماعية. هل تعلم ان المدرسة الاجنبية التي تعلمت انا فيها لم تكن تسلمنا الكتب لنملكها؟ كنا نعيدها كما هي للمدرسة في آخر الترم ومن اتلف الكتاب يدفع ثمنه. تكلفة اقل = مدارس اكثر.
  • رفع قيود حقوق النسخ copyright عن الكتب المدرسية بحيث يمكن تصويرها بطريقة قانونية في اي ماكينة تصوير او ان تطبعها أي دار نشر طباعة جيدة وتبيعها.
هيا نحل مشكلة المعلم

أما إعداد المعلم فله جانب اقتصادي وجانب فكري. مشكلة وظيفة المعلم انها ليست scalable اقصد ان وظيفة مثل البرمجة او التجارة مثلاً يمكن مضاعفة الربح بدون الحاجة لمضاعفة الجهد (اشتر بضاعة اكثر، اطبع نسخ اكثر من الCD) بينما وظيفة كالمعلم لا يمكن للمعلم الواحد مضاعفة المنتج (عدد التلاميذ الناجحين) بدون مضاعفة الجهد والوقت المبذول. يؤدي هذا إلى هروب العباقرة المبدعين من تلك الوظيفة إلى وظائف مرموقة اجتماعياً كالطب او وظائف اكثر ربحية كالبرمجة، وما احوجنا لهؤلاء العباقرة كمعلمين!

في تلك الحالة إما ان تتدخل الدولة برفع رواتب المعلمين، وإما استحداث وسيلة لجعل التعليم scalable (كمحاولات مثل خان اكاديمي) وإما بوضع نموذج اقتصادي يمكن فيه للمعلم التربح من مهنته في السوق الحر (تخيل شيء مثل الدروس الخصوصية لكن بدافع علمي حقيقي لا تجارة بحتة). اعتقد ان النقاط الثلاثة تستحق ان تبحث:
  • يمكن ان نبدأ برفع رواتب المعلمين لتضاهي قيمتهم في السوق لو اخذوا وظائف اخرى.
  • يمكن ايضا وضع آليات لكي يقدم من يريد من اهل الخبرة في التدريس. ربما برنامج "مدارس اهلية" أو "مدارس عملية" يقوم فيه اطباء بتدريس الاحياء، مهندسون بتدريس الرياضيات..الخ كتطوع او وسيلة لزيادة الدخل. بهذا لا يحرم نفسه من سوق العمل وفي نفس الوقت لا يخسر المجتمع خبرته التعليمية. يحتاج الامر مزيد من الدراسة لضبط هذه الفكرة...
  • البحث في الوسائل التكنولوجية للتوسع الرأسي في انتاج المعلم مثل التعليم الالكتروني، التعليم عن بعد...
  • وأخيراً يكون هناك مكونات "تعليم تكميلي" تقدم تعليماً لكن ليس بالضرورة بشهادات، مثل إعادة تجربة حلقات العلم في الدولة الاسلامية لكن ليس في العلوم الدينية فقط، او تقديم وسائل للتعليم في المنزل للاهالي الذين يريدون الاستزادة في العلم لأبنائهم.
تغيير راديكالي

لابد من النظر في نظريات التعليم الجديدة. سأقولها هنا اختصاراً لأن هذا مقال اجتماعي لا علمي:
  • نظريات Piaget في فهم مراحل نمو الطفل الفكري وبناء مناهج تتماشى معها.
  • نظريات الـconstructionist learning والتعليم بالممارسة (هذا تبسيط للنظرية لكن سأستخدم هذا التعبير اختصاراً) بأن يتعلم الطفل الفيزياء مثلاً بكتابة العاب على الكمبيوتر.
  • دراسة وبحث تطبيق كل النظريات الخارجة من اماكن "اعادة اختراع التعليم" المحترمة مثل MIT Lifelong Kintergarden.
  • كنت اريد أن اقول "تعليم الاطفال البرمجة" لكن لو قلتها سيهمل الناس كل النقاط الاخرى ولا يركزوا سوى في هذا الجانب لأني مشهور باهتمامي بذلك الموضوع. (ربما من اجل هذا يتفادى احد المرشحين المعروفين تسميته بالمرشح الاسلامي رغم فكره الاسلامي المعروف).
بالطبع لا احب التقليد الاعمى ولا المشي وراء الموضة: لابد من دراسة كل من هذه النظريات على يد افضل الخبراء المصريين، واتخاذ قرار لكل منها بالتطبيق الفعلي او الرفض او التطبيق مع الموائمة لمجتمعنا.

لو لم تملّ بعد من خطط تطوير التعليم يمكنك ان تنظر إلى ما اريد ان اقول عن مدارس المستقبل، الاجهزة الالكترونية في التعليم، او الجزء الاخير من هذا المقال عن العلم المستشري.

يتبقى جزء "العلاقات الخارجية" والجزء الثوري عن التعامل مع النظام القديم، لكني تعبت واريد ان انام. ربما حين اصحو اكمل الأجزاء القادمة :]

برنامجي الانتخابي

لا تخف عزيزي القاريء، لست انوي الترشح - مازالت البلد بأمان لا تقلق - لكن هذا المقال أريد منه هدفين:
  1. كيف اتخيل شكل البرنامج الانتخابي الجيد؟ لا اقول "محتواه" لكن اقول "شكله". كيف احكم انا شخصيا ان هذا البرنامج يستحق بالفعل وصف كبرنامج رئاسي سواء أعجبني ام لا؟
  2. وجدتها أيضاً فرصة لوصف رأيي في قضايا مختلفة.
ملاحظة: انا لست خبيراً في أي من المجالات التي سأتحدث عنها، ولا في وضع البرامج الانتخابية. كل ما هو مكتوب في هذا المقال هو آراااااء.

اجمال قبل التفصيل

لا احب أن اختصر الرأي في "الإيات" على غرار ثورية، رأسمالية، قومية..لكن هذا هو اول شيء ينظر له الناس. لذلك - بعد التحذير ان التفاصيل اهم من المصطلحات، وان المصطلحات لها معاني كثيرة مختلفة عند الناس، وانه ارجو ان تقرأ باقي البوست لا أن تقف هنا :]، اقول مواقفي في "إيات":
  1. دولة اسلامية حديثة.
  2. اقتصاد سوق حر لكن باهتمام كبير بالتكافل الاجتماعي وتفادي اخطاء الرأسمالية المتطرفة.
  3. صناعة تضاهي الغرب.
  4. سياسة تطوير تعليمي وبحثي راديكالي، أي تغيير نظام التعليم ومستواه تغييراً جذرياً يوازي ما يحدث بالغرب أو يفوقه.
  5. السياسة الخارجية تشبه سياسة تركيا: علاقات طيبة بكل الدول تقريبا مع مواقف حاسمة عند الضرورة. انفتاح بالذات على الدول العربية وفتح ابواب تعاون في كل شيء. علاقات طيبة بالغرب.
  6. آن الأوان ترحلي يا دولة العواجيز.
سأتفادى جانب "الدولة الاسلامية الحديثة" لأني لم ادرسه كثيراً (تذكر، انا لست مرشحاً حقيقياً هاها) وانتقل لتفصيل الجوانب الأخرى...

اقتصاد حر بضوابط

بشكل عام سيبدو النظام أنه رأسمالي، لكن ستكون الدولة واقفة أمام الاحتكاريين ودولة رجال الاعمال على طريقة الحزب الوطني (أو على طريقة امريكا حاليا، وهي النموذج الذي ارادوا تقليده). من هذه الامثلة:
- رعاية صحية مجانية، تعليم مجاني، لكن بدون "قوى عاملة".
- سيظل الدعم للسلع الاساسية (الارز، الدقيق، البنزين).

في نفس الوقت لابد من بذل جهد كبير من اجل حراك اجتماعي حقيقي، بمعنى أن الدعم...الخ يتم اعتباره "سنادات" مؤقتة لتحويل الفقراء إلى طبقة وسطى أو غنية، وعدم اعتباره معاشا يأخذونه ويظلون كما هم للابد. لابد من برامج:
  • رفع الاستقلالية المهنية، أي وجود مصادر جديدة ومتنوعة للدخل غير العمل الحكومي أو وظائف القطاع الخاص، مثل الشركات متناهية الصغر (كل شركة موظف او اثنين) في المجالات التي تنفع مثل البرمجة، وسائل تحقيق الدخل الذاتية passive income، استخدام التكنولوجيا في العمل الحر (مثل بيع المنتجات المنزلية الكترونياً)، ...الخ.
  • مشاريع لمساعدة من تلقوا مجانية التعليم على تلقي اقصى استفادة مما تعلموه، عن طريق قواعد بيانات للخريجين واصحاب العمل (الفكرة سرقتها اليوم من مؤتمر حيّ)، عقد ندوات مستمرة في كل مدرسة عن سوق العمل كما يحدث في امريكا، الخ.
  • خبراء اجتماعيين يقدمون استشارات للذين يعانون من البطالة لكي يعينوهم أن يعودوا واقفين على اقدامهم ومتابعة حالاتهم دورياً. مع المعونة المادية عند الضرورة خاصة لمن يعول.
  • انشاء مؤسسات تنقيب فكري think tanks للإتيان بطرق لتصدير الخبرة عالمياً مثلما حدث في الهند في مشروع الـsoftware outsourcing.
  • انشاء برنامج يسمى "لم يفت الوقت" لتعليم من فاتهم التعليم المدرسي أو الجامعي ويريدون جدياً إعادة تأهيل انفسهم. ويكون البرنامج معد لكي يمكنهم الجمع بين عملهم الحالي والتعليم.
  • معظم هذه الافكار تكون مثلاً 25% مشاريع حكومية والباقي من جمعيات اهلية تنشأ بنفسها او تنشئها الدولة في اول ثلاث سنوات مثلا وتتركها لكفاءات تديرها بعد ذلك.
في هذه الحالة فإن الدولة تقوم بدور لا هو بالرأسمالي المطلق، ولا هو بدور "الأب الذي يطعم المواطن بيده". انها تثق في ان المواطن هو شخص ناضج قادر على الإنتاج لكنها في نفس الوقت تعلم انه هناك وسائل انتاج يحتاجها أي مواطن ليبدأ العمل؛ وأنه من غير العدل ان نتوقع للمواطن ان يرفع من مستواه المادي بنفسه بينما هو لا يجد قوته او علاجه او ما يتعلم به ليعمل ويجتهد.

اقتصاد انتاجي

مشكلة الاقتصاد الحالي اننا لسنا بنفس المستوى الانتاجي مثل الدول الاخرى. لابد للنظر لجزئين: التكنولوجيا، والقدرة الانتاجية.
التكنولوجيا: هل نقدر على انتاج طائرة؟
القدرة الانتاجية: لو اردنا انتاج الف طائرة في الشهر مثلا، هل سنقدر؟

لحل المشكلتين لابد من وجود عوامل كثيرة:
  1. المعرفة بالوسائل الانتاجية know how
  2. الخبرة في ادارة مصانع، تعيين عمال، ...الخ
  3. قيم اجتماعية مثل اتقان العمل والاهتمام بالتفاصيل وحب المغامرة
  4. سوق للتصرف في المنتجات
  5. قوانين منافسة شريفة، حفاظ على البيئة، حقوق العاملين،...الخ
  6. رأس مال مهول (صناعات مثل الطائرات، رقائق الكمبيوتر،...الخ لا يدخلها إلا ذوي المليارات)
الصين قد قامت بحل هذه المشكلة بالاستثمارات الاجنبية ودعوة الدول الاخرى لبناء مصانع لديها بمغريات العمالة الرخيصة...الخ. قد ينفع هذا في بعض المجالات لكن لا اشعر انه يمكن تطبيقها عموماً. فلنر ما يمكن عمله إذاً..

رأس المال والسوق يسيران جنباً إلى جنب، في وجود السوق يأتي المستثمرون - داخليا وخارجيا - على امل الاستفادة من هذا السوق والتربح منه. إذاً علينا ان ننظر للاسواق التي يمكن غزوها. هناك انواع من ذلك...
  • انشاء اسواق جديدة مثلما تفعل الآن شركات الطاقة الشمسية او الشركات التي تنتج SmartPhone.
  • البحث عن اسواق موجودة قابلة للاختراق.
  • التحالف لصنع منتجات لغيرنا يبيعونها في اسواق يسيطرون عليها - الاسلوب الصيني.

اما انشاء الاسواق الجديدة فيعتمد على الإبداع والإرادة، أي على الافراد اكثر من المؤسسات. في تلك الحالة يمكن اتباع النموذج الاسرائيلي: الكثرة والتنوع تغلب الحجم. صدق او لا تصدق، كانت الحكومة المصرية مهتمة جداً بدعم انشاء شركات التكنولوجياً منذ 2005 او ما يسبقها؛ المشكلة انهم كانوا كل عام يدعمون عدد قليل من الشركات بمبالغ كبيرة. سوف نفعل نحن العكس: كل عام ادعم مائة شركة او اكثر دعما ماليا قليلاً (مائة الف جنيه او اقل) لكن احرص حرصاً شديداً على اختيار العباقرة ذوي الإرادة الحديدية.

أشعر ان اغلب المؤسسات المصرية لدعم الشركات تسير وراء الموضة: هذا العام cloud computing، العام السابق mobile applications -- كلا! هذه المرة سوف يكون الاختيار علميا جداً؛ لابد اولا من اختيار من سيختارون الشركات، إما أن يكونوا قد اسسوا بانفسهم شركات ناجحة، أو أن يكونوا انجزوا ابحاثا عن انشاء الشركات منشورة في مؤتمرات عالمية..لن نفرط مرة اخرى في مال الدولة المخصص لدعم المشاريع.

هذا عن انشاء اسواق جديدة؛ ماذا عن اختراق اسواق موجودة؟ يمكن للدولة إنشاء وحدة "هجومية" تدرس عاماً بعد عام: أي سوق علينا الدور أن ندخله؟ هناك في التسويق مبدأ اسمه barriers to entry أو عوائق دخول السوق. مثلاً لو أردت صنع سيارة جديدة وتسويقها، ماذا سيحول دون شراء المصريين مثلاً لها؟ لابد من إزالة العوائق واحداً واحداً، واختيار الاسواق بطريقة متدرجة (مثلا الصناعات التكميلية ، ثم قطع الغيار، ثم سيارات العمل كالأتوبيسات والنقل، ثم السيارات الشخصية).

ثم لابد من التبادل التجاري مع طوب الارض: السوق الداخلية، الدول العربية، العالم الاسلامي، كله. لقد كان العرب في الدولة الاسلامية عباقرة في التجارة، والامبراطورية البريطانية بنيت على التجارة (احتلت الهند لاجل الشاي، مصر لأجل القطن...). لابد من بيع الثلج اللاسكيمو والدفايات للسعودية كما يقال. لابد من ازالة كل الحواجز التي تعوق ذلك التبادل. ربما يمكن عمل بعض الاشياء...

  • إنشاء وحدة للثقافة التجارية الدولية، تدرس العادات الشرائية للدول الاخرى، عوامل تفضيل افرادها لمنتج على الآخر، حتى الاسماء الجذابة للمنتجات في لغاتهم، وتنشر هذه المعلومات للمنتجين المصريين.
  • انشاء هيئة لدراسة جانب النقل الدولي: دراسة إن كانت الدولة تحتاج مثلاً خط نقل بري او جوي لدولة ما لأن التبادل التجاري معها كثيف. ينطبق هذا الامر بالذات على الدول العربية والافريقية بالطبع.

يبقى فكرة المعرفة بالتكنولوجيا know how، الخبرة الانتاجية (وهي غير المعرفة)، القوانين، والقيم الخاصة باتقان العمل. المشكلة ان المقال صار الآن اطول مما ينبغي فسأتحدث فيها باختصار شديد...

- لابد من اجتذاب كل مصري قام بجمع خبرة حقيقية من العمل بالخارج في شركات مثل انتل، مايركوسوفت، سواء خبرة ادارية او تكنولوجية ونشر خبرته في كل مكان.

- يمكن عمل مصانع محتضنة، أي تنشئها الدولة وتديرها لبضع سنين ثم تبيعها للقطاع الخاص في برامج نقل ملكية. هذا يحل مشكلة "المصنع يحتاج بضع سنين لكسب الخبرة والتجارب دون الخوف من الربح والخسارة". لو كان هذا غير عملي (بسبب الخوف من الفساد او عودة القطاع العام) فقد يمكن دعم الدولة للمستثمرين الطموحين الذين يريدون انشاء سيارة مثلا لكن يخشون الخسارة المادية.

- عمل مؤسسات لدعم الصناعة المفتوحة الموازية: فكرة وضع تصميمات هندسية والكترونية في صورة open source ووسائل انتاج رخيصة تتيح للافراد والمجموعات الصغيرة دخول عالم الصناعة. إذا كان عدد كبير من الهواة فتح الباب لنظام مثل لينكس ظنناه لا يأتي إلا من شركة عملاقة، فلِمَ لا نجرب ان نتركهم يصنعوا منتجات حقيقية بدون الخوف من الخسارة المهولة التي تأتي من انشاء مصنع كبير؟

- القوانين والقيم الاجتماعية امرها معروف بطرق الاصلاح والتطوير القانون الاجتماعي المعتادة.


(سأكتب الاجزاء الخاصة باصلاح التعليم، السياسة الخارجية، التعامل مع النظام القديم في مقالات اخرى أولهم ما يلي:

الجزء الثاني - اصلاح التعليم.

الأربعاء، 21 مارس 2012

تطبيق التفكير الحوسبي عملياً: المجال التعليمي

كان المقال السابق امثلة عن تطبيق الفكرة في مجالات متنوعة، لكن هذا المقال الجديد عن تطبيقه في التعليم، ولتكن نظرة اكثر تعمقاً وتفصيلاً في هذا المجال بالذات.

هذه الرسالة التي اكتبها الآن موجهة لقاريء مثلي في المجال التكنولوجي/البرمجي، بهدف تنسيق الافكار على امل صياغتها بعد ذلك لجمهور اكثر تنوعاً في خلفياته. أخيراً هذه المناقشة تجمع بين المدى القريب والبعيد بهدف ان تكون رؤية لنهاية الطريق ووسط الطريق معاً..

التعليم قبل الجامعي

تهدف الفكرة لتغيير الخارطة التعليمية بحيث تكون علوم الحاسب - وليس بالضرورة البرمجة - جزءاً من المنهج الرياضي في الاعدادي والثانوي مثلها مثل اخواتها مباديء الرياضيات الحديثة الأخرى (المجموعات، الإحصاء...). هناك ابحاث حاليا تجري في تقريب علوم الحاسب للاطفال لهذا السبب يقوم بها اطراف من MIT، CS Unplugged، وغيرهم.

إذا تم وضع ذلك الاساس يمكن تطوير المناهج ذاتها لتكون مثل البناء الموضوع على اساس رياضي قوي. مثل ذلك:

- تحويل البراهين الهندسية إلى عملية state space search أو مثل ذلك من التقنيات الموجودة في الذكاء الاصطناعي.

- تحويل تعلم اللغات العربية/الانجليزية/...الخ إلى شيء مبني على فكرة syntax, semantics من اللغويات الحوسبية.

- استخدام افكار simulation في شرح الفيزياء.

- استخدام افكار من الdebugging لاضافة اجزاء للمناهج على غرار "كيف اعرف ان عملي ليس خطأ"، مثل التأكد من نتائج تجربة العلوم او انني لم انس شيئا في حل مسألة الجبر...الخ

- يمكن استخدام هياكل البيانات مثل lists, graphs, trees في تدريس كل العلوم تقريبا، بل أيضا كوسائل للمذاكرة وتجميع الافكار. مثلاً: الاسناد في علم الحديث في صورة Graph، او تجارب التعرف على المواد الكيماوية في صورة decision tree.

- تصنيف فصائل الكائنات الحية في شجرة تشبه class hierarchy المستخدمة في البرمجة الشيئية OOP.

- استخدام البرمجة كوسيلة للتعبير الفني، بحيث يكون هناك حصص رسم ثلاثي الابعاد او رسم متحرك مثلا مع حصص الرسم العادية.

- هناك ايضا وسائل حوسبية في المواد الادبية مثل التاريخ..علم الاجتماع، الخ. لا يزال البحث فيها جارياً.

التعليم الجامعي

يعتمد الموضوع هنا على كل كلية ونشاطها. كلية التجارة مثلاً كثير من شغلها هو في حقيقته algorithms، فأعتقد انها قد تكون من اوائل الكليات المستفيدة من المشروع. يمكن في البداية وضع مادة بالسنة الأولى او الثانية مقدمة data structures & algorithms تقدم بحنكة وإتقان بالاتفاق مع اساتذة متفتحين، ثم بناء مواد اخرى عليها تدريجيا حتى تصبح المناهج كلها حوسبية.

بالنسبة للكليات مثل طب، علوم، ...الخ اعتقد ان الموضوع قد يبدأ من الابحاث لا التدريس، بمد يد التعاون مع طلبة الماجستير والدكتوراة المبدعين ودعوتهم إلى مركز التفكير الحوسبي المخطط فتحه، بحيث يمكننا ان نقدم لهم عروضا وكتبا وندوات عن الابحاث في مجال الbioinformatics أو computational medicine ، وهي مجالات عالمية بدأت تظهر بالفعل، ونقدم لهم الدعم الفكري والعلمي ليدخلوا في هذا المجال..بحيث ينشأ جيل من اساتذة الطب والعلوم متمكن من الجمع بين علوم الحاسب ومجالهم الاصلي، ويكونوا بإذن الله بذرة ويد محركة لتطوير مناهج كلياتهم لتصبح فكرحوسبية.

كليات اخرى مثل هندسة هي قريبة اصلاً من المجال الحوسبي، وقد نجد فيها مواهب ترحب بالفعل بالتعاون معنا او الانضمام إلينا.

ماذا عن الكليات النظرية مثل اداب، لغة،...سياسة واقتصاد..الخ؟ سيحتاج الامر بعض الجهد الاعلامي لأننا نريد علماء فيها يكونون مزيجا من الفكر الرياضي ومجالهم الاصلي، لكن مع الوقت قد يتغير الامر. يعتمد الموضوع هنا ايضا على فكرة التواصل مع كل الفئات outreach بحيث يكون الفكر الحوسبي آخذ في الانتشار في المجتمع نفسه، والاطفال يتعلمون البرمجة أيا كانت كليتهم علمية او ادبية...الخ.

ارجو ان تكون الفقرات السابقة قد ساهمت أن تكون نتائج التفكير الحوسبي اقرب للواقع وابعد عن الافكار العلمية المجردة.

تطبيق التفكير الحوسبي عملياً: فكرة عامة

كتبت كثيراً عن التفكير الحوسبي، لكن لم اذكر امثلة حقيقية على استفادة المجتمع من هذا النشاط بل ركزت على النواحي العلمية. كنت دائماً اقول "اظهر ولا تخبر"، ربما قد حان الوقت ان اتبع نصائحي بنفسي :)

نعم هذه فكرة ينبغي أن تكون اوضح! هناك جانبين: المدى الطويل والمدى الأقرب. أما بالنسبة للمدى الطويل فالتفكير الحوسبي يتوقع له أن يكون شكل العلم القادم الذي سيسير به العالم، وسيكون من واجبنا اللحاق به وإلا استسعت الفجوة العلمية بيننا وبين باقي الدول.

لقد كانت الفجوة بين الغرب والعالم الاسلامي في اقصاها ايام الحملة الفرنسية مثلاً، حتى بدأنا نسدها شيئاً فشيئاً عبر قرنين..لكن التفكير الحوسبي يعد بقفزة تعادل النهضة الأوروبية السابقة، ولو حققوها ولم نلحق بها لبدأنا القصة من جديد وعدنا كما كنا :(

اما على المدى الاقرب، فيمكن الحديث عن اثار ايجابية في التعليم، البحث العلمي، الاقتصاد، والحياة العامة.

من الامثلة على التعليم والبحث العلمي:

  • تحديث علم النحو العربي بربطه بعلوم computational linguistics، وكذلك تحديث تدريسه في المدارس. مثل ذلك الهندسة، الفيزياء..الخ
  • انواع جديدة من الابحاث الطبية تعتمد على التكامل بين علوم الحاسب والطب، مثلا استخدام الشبكات العصبية في فهم كيفية تعلم الاطفال الرضع للكلام، المشي،...الخ او العكس: استخدام العلوم الطبية في تعليم الاجهزة ما يشبه هذه المهارات.
  • تحديث دراسة وتطوير القوانين عن طريق الاستفادة من العلوم المكتسبة من الذكاء الاصطناعي من rule based systems...الخ. لا اتحدث فقط عن استخدام نظم برمجية في المجال القانوني يصنعها مبرمجون -- اتحدث عن استخدام طلبة وخريجي الكليات القانونية انفسهم لهذه الطرق لتسهيل الدراسة والممارسة مثلما استخدم الجبر قديما في شرح وتطبيق المواريث مثلاً.

من الامثلة على الاقتصاد:
  • تحديث الصناعة، لأن المصنوعات الحديثة دائما لها نصف برمجي، والسيارة Toyota Prius مثلا بها شغل software اخذ نسبة كبيرة من المجهود المبذول فيها تضاهي الجانب الهندسي.
  • ظهور انواع جديدة من الشركات، مثل شركات اجهزة طبية تعتمد على جهاز الموبايل + sensors، أو شركات لعب اطفال تستخدم الrobotics، وهكذاً. القصد انه حين يعرف المجتمع كله علوم الحاسب تكون هذه الشركات كثيرة ومعتادة وليس "فلتات" كما نرى الآن.

من الامثلة في الحياة العامة:
  • رفع الكفاءة في ادارة الشركات، أو حتى في الحياة اليومية، بسبب معرفة الكثيرين لتقنية Algorithm analysis وتطبيقها.
  • ارتفاع قدرة الناس على تنظيم افكارهم حين يعلمون trees, lists, graphs...الخ، إن فكرة الmind map بقدر ما فيها من فائدة ما هي إلا محاولة تقريب الgraphs لعموم الناس.

هذه فكرة مختصرة راعيت فيها التنوع اكثر من التفصيل. في الجزء الثاني نركز بالتفصيل في جانب واحد: التعليم.

سياسة الدولة (1) - مجانية التعليم

كل شاب مصري يكوّن هذه النظرية عن مجانية التعليم. أنا شخصيا كونتها في فترة ما من حياتي ثم اعرضت عنها:

ينبغي إلغاء مجانية التعليم، فهي عبء على الدولة. كما ان التعليم ينبغي أن يكون لمن يحبه ويستحقه ولا يوزع على الناس هباء. يجب يكون التعليم مجاني حتى الإعدادية، فقط، ثم بعد ذلك يتم إلغاء المجانية إلا من بعض المنح للمتفوقين من الفقراء.

مشكلة هذه النظرية انها توحي لمن يسمعها أن صاحبها فكر في كل شيء وسد كل الثغرات، كما تشعره أنه عملي لا يردد الشعارات (فهو يرى الموضوع شعاراً)، واخيراً تشعره انه تغلب على الفكر "الاشتراكي" الخاص بالفترة السابقة في مصر. هذا الشعور بالرضا عن النفس يقوم بدور مثل الفيروس، فيجعل الفكرة تنتشر من شخص لآخر ويجعل انتزاعها ممن يؤمن بها صعباً.

لكني سأحاول.

الصعود الاجتماعي

قمت في مقال سابق بالحديث عن محاور للنهضة، منها "طبقة وسطى قوية". بدون الطبقة الوسطى لا ديموقراطية (فالشعب خائف على لقمة العيش ولا يجرؤ على الاعتراض) ولا تقدم علمي (فالمرء دائر بين كذا وظيفة لا يجد وقتا للتركيز في البحث العلمي) ولا امان (لأنه من الفقراء من سيتجه للجريمة/البلطجة).

هناك شيئين ينبغي التفكير فيهما لرعاية الطبقة الوسطى في أي دولة: الحفاظ على اهل الطبقة الوسطى من الانزلاق لأسفل، بأن يضطر مثلاً لإنفاق مدخراته كلها في عملية جراحية حين يمرض، والشيء الثاني هو فتح سبيل للصعود الاجتماعي بإتاحة فرصة لأهل الطبقات الفقيرة ان يعملوا في وظائف مرموقة (ماداموا يستحقونها) أو يفتحوا شركات....الخ.

هنا يأتي دور مجانية التعليم: ان الجيل الأعلى مني (اهل الخمسينات مثلا) قد بدأوا حياتهم - بالكامل تقريبا - من طبقات ضعيفة مهاجرة من الارياف او مثل ذلك، وخاضوا حياتهم يكافحون حتى صاروا يسكنون في شيراتون ومدينة نصر والجولف. وإن كفاحهم هذا ليكون اصعب عشرات المرات لولا تعليم مدرسي وجامعي مجاني. اسأل أبيك عزيزي القاريء هل كان مستفيداً من التعليم المجاني ام لا (وآبائي استفادوا). انا اتحدث جدياً. انا منتظر حتى تسأله وتأتي :)

ماذا عن تقديم منح المتفوقين لحل تلك المشكلة؟ ممم...سيكون وقتها الصعود الاجتماعي بمثابة انبوبة رفيعة يمر منها كل سنة نفر صغير من "المتفوقين" والباقي يظل غصباً عنه في الطبقة الفقيرة للابد. غير ان هذا سيربط بين التفوق والخروج من الفقر ارتباطاً وثيقاً وسيبدأ الناس في دفع ابنائهم لأن يحسبوا من المتفوقين بأي ثمن: الغش، الرشوة، التزوير...

لماذا لا نعترف ان الطالب الاقل من المتفوق له حق في التعليم؟ لاحظ التعبير: أنا لا اتحدث عن الفاشل دراسيا بل عن من يمكنه ان يتعلم ويكون عضوا منتجا في المجتمع بعلمه لكن ليس من افضل 5% أو 10%.

ماذا عن مجانية للفقراء فقط دون الاغنياء؟ سيؤدي هذا لمشاكل هو الآخر: ما تعريف فقير؟ وكيف نتأكد ان هؤلاء المتقدمين للمنحة هم فقراء بالفعل؟ لابد وقتها من إنشاء بيروقراطية جديدة للتمييز بين الغني والفقير، ولهذه البيروقراطية موظفون ومفتشون وقواعد يتم تحديثها بحسب الحالية الاقتصادية وتكاليف كان الاولى انفاقها لتعليم الناس ولو كانوا اغنياء اصلاً. ناهيك عن الأذى النفسي الذي يصيب الإنسان الذي يذهب ليثبت أنه "فقير" كي يحظى بالعلم. الا تشاهدون المسلسلات القديمة عن مصر قبل الثورة؟ الم تسمعوا عن مأساة اسمها "شهادة فقر"؟

النهوض الاقتصادي

ثم يقولون "ولكن مصر يخرج منها عشرات آلاف الخريجين كل عام ولا وظائف لكل هؤلاء". اقول ان هذه مشكلة دولةٍ تعتبر المتعلم عالة وليس فرصة. ماذا فعلت الهند؟ لديهم تعليم مجاني وقلة في الوظائف -- ففكروا في فكرة outsourcing وجلبوا الوظائف من الخارج عبر الانترنت حتى صار الامريكان يشكون من اخذ الهنود لوظائفهم. اكثر من هذا: هذه الاموال التي تدخل لهم تبذل الآن في تحقيق نهوض اقتصادي هندي، واخرجت الكثيرين هناك من طبقاتهم الاجتماعية الدنيا.

لا اقول ان الحل في الـoutsourcing (أقصد ليس فيه بالذات) لكن الفكرة الاساسية هنا هي اعتبار فكرة "آلاف المتعلمين" مورداً لا عبئاً، والإتيان بخبراء ومبدعين يخرجوا لنا بمائة مشروع مثل outsourcing وافضل. ببساطة لو ضبطنا النموذج الاجتماعي بحيث يكون العائد المالي من التعليم > المال المنفق عليه، فستكون المجانية هي افضل شيء للاقتصاد :)

الفكر

انظر للمشهد السياسي الآن: غياب للثقافة السياسية هددت نجاح الثورة نفسها، وقد تؤثر على الانتخابات القادمة، وغياب للفكر المطلوب لصنع الديموقراطية (أن يعرف الجميع شيئا عن السياسة، الاقتصاد، القانون...الخ ليختاروا ويقوّموا ممثليهم في الدولة)، وثغرات فكرية كثيرة تسعى مؤسسات وافراد للتوعية بها. الآن تخيل نفس المشهد مع وجود نسبة اكثر بكثير لم يكملوا سوى الإعدادية او الثانوية. سوف تتحول الثغرات إلى هاوية.

تخيل مجتمعنا الحالي الذي تنتشر فيه الخرافات، وتمرح فيه الشائعات، ويختلف الناس بدون حجج منطقية تدعمهم، ويعلو الرأي الشخصي فوق الرأي الموضوعي. اخبرني بحق: هل ترى الحل في تعليم اكثر أم أقل؟؟

الدول الاخرى

هذا المقال يحكي عن المدارس الفنلندية، وهي تعد من افضل المدارس في العالم حتى ان الدول الاخرى ترسل البعثات لتعرف ما يفعلون بالضبط. شدت انتباهي هذه الجملة:

Only a small number of independent schools exist in Finland, and even they are all publicly financed. None is allowed to charge tuition fees. There are no private universities, either. This means that practically every person in Finland attends public school, whether for pre-K or a Ph.D.

هل تدرك مدى هذا الموقف؟ انا ادعو لنظام مختلط من المدارس والجامعات الحكومية والخاصة، لكن فنلندا ذهبت لأبعد من هذا فجعلت كل المؤسسات التعليمية، كل المدارس والجامعات، مجانية!!

في هذه الظروف قد يحسب البعض أن هذا سيؤدي لكارثة قومية ينهار فيها تعليم الدولة واقتصادها، لكن العكس تماما حدث: من افضل التعليم في العالم.

الواقعية بالنسبة لي ليس معناها "التشاؤم" أو "شد الحزام"، بل معناها النظر للتجارب الموجودة في الواقع والاستفادة من نتائجها، حتى لو لم تكن نتائج متماشية مع افكارك الاصلية.

ماذا عن امريكا؟ اقرأ هذا المقال عن انخفاض معدل خريجي الجامعات لديهم. مقتطف من المقال:

One of those challenges is the cost of college, which continues to rise, even as family income has flattened. Students from well-off families are far more likely to go to college than students from poor households, according to the report.

Among families earning $100,000 or more, 91 percent of students go to college. That number drops to 78 percent among middle-income families ($50,000 to $100,000). And for families earning less than $20,000 a year, it's 52 percent.

"We need a new social contract about tuition," Callan said. "It's a political football that discourages low-income people from attending college and middle-income people from saving for it."


انظر كيف تنتهي الفقرة بالحديث عن كيف ان ذوي الدخل المتوسط يعرضون عن الادخار من اجل التعليم الجامعي لابناءهم. فكرة الادخار نفسها كشرط مسلّم به للتعليم فكرة تزعجني للغاية. الذي يحدث ان قرار "التعليم ام لا" هو قرار عصيب لكل اسرة امريكية، بعضهم يدخر او يقترض فقط ليقدم فرصة لدخول ابناءهم الكلية. بعضهم يدخل ابنا ويترك الآخرين، وكثير من الطلبة يقترض من البنوك ليدخل الجامعة ثم يعيش مديوناً لسنين بعد تخرجه، ويتحكم البنك بحياته. تخيل ذلك لنفسك: تخرج من الكلية مديوناً بعشرات الآلاف بينما انت بعد تبحث عن وظيفة ولم تقبض اول قرش في حياتك.

الدولة الاسلامية

ولقد كانت مجانية التعليم، مع مجانية العلاج واطعام الفقراء وكل سائر أوجه التكافل الاجتماعي، هي من الصفات المميزة للدول الاسلامية لقرون. اقرأ أي من كتب د.راغب السرجاني...الخ ليحكي لك عن المكتبات التي تملأ الشوارع بلا مقابل والجامعات (الازهر، القيروان، بغداد، الاندلس...) التي تنفق على طلابها لا ينفق طلابها عليها. هذا جزء من ثقافتنا اصلا ولا ادري لمَ كل هذا الالتباس في تقييمه.

خاتمة

لقد قلت ما يمكنني من حجج في هذا الموضوع المهم، وقد حاولت قدر الإمكان البعد عن الشعارات لكي لا يظن القاريء ان الامر مجرد شعار، وسعيت لتقديم حجج اقتصادية وسياسية واجتماعية، وامثلة من اوروبا وامريكا، لكي ندور في فلك النقاش العلمي.

الثلاثاء، 20 مارس 2012

ماذا تعني كلمة ماجستير؟

تخرجت وقالوا اعمل معيداً. لماذا؟ لكي تحصل على الماجستير. وماذا سأستفيد منه؟ يكون الرد:
  • المركز الاجتماعي.
  • الدرجة العلمية.
  • التأهل للدكتوراه.
ولكن...هذه ليست أشياء حقيقية! يا سادة، اعطوني سببا له وجود مادي وليس رمزاً مثل "المركز الاجتماعي". تخيلوا انه هناك نقطة اسمها الماجستير ونقطة اسمها السعادة، الا يوجد شخص حكيم يشرح لي أين الخط الذي يصل بين هاتين النقطتين؟ اقرب إجابة لشيء حقيقي كانت من صديق يقول لي "لو أخذت الدكتوراه سيمكنك الذهاب للعمل في جامعة خليجية". يا سلااااام! إذاً بين "الماجستير" و"الفائدة الحقيقية" سبع او ثمان سنوات مثلاً. هذا على افتراض انني احب التدريس في الجامعات، وانني على استعداد لمغادرة بلدي.

المشكلة انني صدقتهم. وهو درس قد تعلمته عموماً: الناس لا يعرفون شيئاً ويحبون ان يفتونك بغير علم. إذا نصحك الشخص فضع نصيحته بجانب الرصيف واهرب فوراً.

مرت سنوات وانا لا احب الماجستير، لكن الغريب انني لم اكره فقط العمل فيه، لكني كرهت الكلمة نفسها. قبل ان تظهر المشاكل، قبل ان ارغب في ترك الكلية، قبل كل هذا...لم اكن احب الكلمة نفسها وليس فقط معناها.

هناك سببان: اولا اهتمام الكل بها واعتبار انها غاية الغاية.
  • يا محمد، لا تحب العميد؟ تحمله من اجل الماجستير.
  • يا محمد، لا تحب البيروقراطية؟ الماجستير!!!
  • يا محمد، تشكو من نقص المال؟ خذ فقط الماجستير وسيجيئك المال من كل جانب (لم يذكروا أبداً كيف...فقط يتحدثون بكل ثقة).
  • يا محمد، لا تحب الماجستير؟ خذه من اجل الدكتوراه.
حين تجد الناس يتحدثون بهذه الطريقة، اهرب فوراً.

هناك سبب آخر. هيا نعود إلى سنة 1985، حين كان بطلنا (أنا يعني) في السادسة. وفجأة وجد امه تأتي بالكتب وتذاكر. هل الكبار يذاكرون؟؟

وتأخذني للنادي بالسيارة ومعها الكتب. ثم تجلس على الترابيزة، وترص الكتب، وتتركني....وتذاكر. ربما يكون هذا سبب كراهيتي للكلمة نفسها، وليس فقط الدور الوظيفي.

(بالمناسبة، نصيحة لكل اب وام: كل شيء لا ينسى. هل كذبت ذات مرة على ابنك؟ هل ضربت ابنتك على شيء لم تفعله لأنك لم تجد وقتا لتبحث من المذنب الحقيقي؟ قد يكون هذا شيء عادي وتافه جداً بالنسبة لعقلك الناضج، ولو كذب عليك شخص مثلاً وانت كبير لن تتأثر، لكن الطفل سوف يتأثر في ذات الموقف. كن عادلاً مع ابنائك احسن لك).

وذات مرة، وانا في العشرينات، كنت اتحدث مع شخص اعرفه عن الماجستير الخاص به. يقول انه تجاهل نتائج التجارب الحقيقية (التي جاءت بعكس توقعات المشرف) وكتب ان النتائج - التي تؤكدها القياسات - هي ما توقعه المشرف بالضبط. غضبت وقلت ان هذا خطأ، وسيضر البحث العلمي، فكان الرد: وهل يوجد بحث علمي في مصر اصلاً ليستخدم احد هذه النتائج؟ لا يوجد فرق بين نتائج صحيحة وخاطئة، لكن انا فعلت المطلوب لكي احصل على الماجستير.

في الواقع بعد مناقشة قصيرة اقتنع هذا الشخص بخطأ ما فعل، لكن عزيزي الشخص المصري الذي يسعى للنهضة العلمية: اعلم ان رسائل الماجستير والدكتوراه في العشرين سنة الأخيرة (على الاقل) مليئة بالفبركة والتخريف وانصاف الابحاث. كن شكوكاً في كل شيء تقرأه وتحقق من كل شيء، ولو رأيت مثل هذه الرسائل لا تبنِ عليها بحثاً علميا بل اهرب فوراً.

لكن على الاقل تعلمت معنى كلمة ماجستير: انه شيء من الصعب ان تصف له فائدة حقيقية، ويسعى له الجميع بأي ثمن، ويحول بين الأولاد الصغار وامهاتهم. لا عجب اني لا احبه.

الجمعة، 16 مارس 2012

لماذا اخترت فلان كمرشحي للرئاسة؟


مشكلتي هي انه هناك افراد كثيرون يثقون بي، لذلك لم احب ان اعلن على المدونة انني اخترت "فلان" لكي لا اؤثر فيهم. لكن في هذه الظروف اريد ان اعبرعن رأيي لأني أراه مهما. حلا لذلك الإشكال (أو الإشكالية كما يقول المثقفون هذه الايام) سوف اذكر كل الاسباب التي دفعتني لانتخابه ولن اذكر اسم المرشح سوى في النهاية. بذلك أرجو ان يكون تركيز القاري على الاسباب يقبلها أو يرفضها، وليس على الشخص نفسه.

الصعود الحضاري الصاروخي

لا يخفى علينا اننا تابعين للغرب (أي لأمريكا). هم الذين يصدرون لنا التكنولوجيا، هم الذين يعينون لنا الحكام، هم الذين يصدرون لنا الاسلحة (بالموديل والقدرات التي يحددوها)، هم الذين نقترض منهم. الدولة بكاملها موظفون لديهم. هناك طريقة واحدة فقط لحل تلك المشكلة: ان نضاهيهم علما واقتصاداً وإنتاجاً في حوالي عشرة سنوات.

لو لم نفعل ذلك فببساطة سيتصرفون: سيربطون المعاونات الاقتصادية بسياسات معينة مفروضة علينا، أو يمولوا حركات سياسية داخلية توافق اهواءهم، أو يكرروا التجربة العراقية. أو...أو...حتما ستأتي لحظة نحتاجهم ويساعدوننا بشروطهم، أو نخشاهم ويملون علينا شروطهم. عشر سنوات مفيدة لأنهم لن يصدقوا اننا سوف ننهض في تلك الفترة، فنستطيع ان نلملم اركان بيتنا ونبني مستقبلنا وهم مشغولون ثم نواجههم كقوة عالمية مساوية لهم. اكثر من ذلك "حياخذوا بالهم".

قبل ان تناقشني في السنوات العشر..لا اقصد هذا الرقم تحديداً..ربما اكثر قليلا او اقل قليلا لكن في كل الاحوال يجب الا يكون اكثر من اللازم. لو انك ممن يظنون اننا نحتاج على الاقل 50 او مائة سنة مثلا فلن يؤثر عليك هذا المقال بشيء -- اذهب وانتخب من شئت :)

التوافقيين وغيرهم

الآن نأتي لبعض الاسئلة:
1- ما موقفي من سؤال "رئيس ثوري أو توافقي"
2- ما موقفي من "رئيس اسلامي او غير اسلامي".

نبدأ بالتوافقيين: باختصار شديد جداً، أنا اريده أن يكون رئيس "صعود حضاري صاروخي". وهذه الصفة من المستحيل ان توجد فيما يسمى "غير ثوري" أو "توافقي".

هل نستطيع تخيل رئيساً يجمع بين عدم الثورية والقدرة على الصعود الصاروخي للبلد؟ لم نجد من النظام القديم سوى التلصيم والتبعية للغرب (في احسن الاحوال) او السرقة والتنكيل (في اسوأها). لو كان "غير ثوري" معناها "شبيه بعمر سليمان أو عمرو موسى" إذا فهو الخراب.

ماذا عن فكرة رجل غير ثوري لكي يسير بجوار الحائط ولا يستفز امريكا، حتى نبني الدولة الحديثة؟ ثم نواجه امريكا بمصالحنا واهدافنا؟ لن يحدث هذا لأن الطريقة الوحيدة لكي نصير امة حقيقية لا تحدث إلا بتغيير حقيقي في النظام الاجتماعي: حرية، توزيع عادل للثروات، كرامة...الخ

هب اننا اتينا بـ"غير ثوري حكيم": سوف يبقي على امن الدولة يعينون اساتذة الجامعات، سوف يحافظ على سيطرة الدولة على التلفزيون، سوف يعينون وزراء يفضلون الطاعة على التطوير...الخ...الخ. يعني البلد لنن تتقدم لحظة. لماذا سيفعل كل هذا؟ لأنه لو فعل عكس هذه الأشياء فسيكون - بحسب التعريف - ثورياً!

اما الاطراف التي تريد رئيسا لا يخيف امريكاً، فهذا ببساطة يؤدي إلى سلام مؤقت مع امريكا مع عدم التقدم الحضاري، فلا نستطيع مواجهة امريكا بعد، فنضطر لسلام مؤقت جديد معها، فنختار رئيس توافقي جديد، فلا يؤدي لتقدم حضاري....الخ....الخ

ماذا لو ادعى البعض انهم سيخرجون من هذه الحلقة بأن يتركوا الرئيس توافقيا ثم يطورون البلد باسلوب غير رئاسي (برلماني، المؤسسات الاجتماعية...الخ)؟ لا! إن أردنا مشروعاً حضارياً حقيقياً فيجب ألا يكون مبنيا على تمثيليات واتفاقات. لابد من شفافية مطلقة وايمان حقيقي بالمشروع على مستوى الدولة كلها من رئيسها للكناس في الشارع، وإلا تكون دولة متعددة الشخصيات مبنية على اساس من المناورات والخداع.

المشروع الاسلامي

ماذا عن المشروع الاسلامي؟ ببساطة: المشروع الاسلامي لا يتم بدون صعود صاروخي. لو سعينا لتطبيق الشريعة ونحن كما نحن سياسيا واقتصادياً وعسكريا فسنجد المؤامرة تلو المؤامرة حتى ينهار ذلك المشروع.

تذكر الدولة العثمانية: لقد كانت دولة خلافة اسلامية لكنها غارقة في الديون لاوروبا، متخلفة علمياً، ومحاولات تحديثها (وهي محاولات محمودة) كانت تسير ابطأ مما ينبغي. ببساطة كانت ضحية المؤامرات. احيانا مؤامرات ثقافية مثل نشر العلمانية بحجة التقدم العلمي، احيانا مؤامرات سياسية مثل خلق احزاب جديدة والزج بها في تقويض الدولة الاسلامية بحجة اصلاحها، او مؤامرات عسكرية مثل احتلال مصر.

اقول اذاً ان الطريق الوحيد للحصول على الدولة الاسلامية المرغوبة هو الصعود الحضاري الصاروخي. مرشح اسلامي بدون صعود صاروخي = مرشح اسلامي من حيث النية فقط.

هنا يأتي مفترق طرق: قد يكون امامنا مرشح "اسلامي صعودي" وفي تلك الحالة يكون الموقف مثالياً، أو "مرشح غير اسلامي صعودي" ويكون هو "الصعودي الوحيد".

هل سأقبله في تلك الحالة؟ إن كان يحترم الحريات والعملية الديموقراطية فنعم. منطقياً:
1- لو كان اسلاميا لا يقدر على الصعود، فسيبدأ في تطبيق الاسلام فترة ثم ينهار كل شيء بسبب التبعية الامريكية. بالنسبة لي كأنه يستوي مع غير الاسلامي.
2- لو كان غير اسلامي لكن (أ) يقدر على الصعود الصاروخي. (ب) يحترم الحريات والعملية الديموقراطية. (ج) لا يعادي الاسلام ولا يزرع سبل مقاومة الفكر الاسلامي في الدولة. في هذه الحالة فإنه من المتوقع ان يترك البلد افضل بكثير مما هي عليه، وفي نفس الوقت يكون المفكرون الاسلاميون قد بدأوا في تغيير المجتمع وتوجيهه نحو مشروع الدولة الاسلامية، ويمكن وقتها بسهولة ان يأتي رئيس قادم اسلامي (وصعودي هو الآخر) ويحكم دولة اقدر على مواجهة المؤامرات...الخ.

بس الموضوع احسن من كدة

لكن الشخص الذي ارشحه انا اراه يجمع بين الاسلامية و"الصاروخية". في الواقع - وهذا قد يغضب مؤيديه - لا اظنه يملك العبقرية الفذة التي تجعله بمفرده يغير شكل الدولة، لكن ارى ان لديه ما يكفي من الذكاء واحترام الحريات لكي يعطي الدولة نفسها فرصة كي تنهض. إن الدولة مليئة بالعباقرة والمكافحين وذو الرؤى، وما نحتاج له كي ننهض هو:
- حل للمشاكل الاقتصادية لكي يستطيع الناس ان يطمئنوا على الطعام والمأوى...الخ فيتفرغوا للنهضة.
- ما يكفي من الديبلوماسية لكي تنحل امريكا عن دماغنا فترة ما نبني فيها الوطن.
- حل للمشاكل الامنية والقمعية...الخ لكي يمارس الناس حياتهم بلا خوف. التغلب على مؤامرات امن الدولة...الخ
- نظام سياسي "محترم" يتيح للافضل ان يأخذ مكانه، وليس للاكثر نفاقا للحاكم او الافضل طاعة.
- حريات للسياسة، الصحافة، ...الخ

نحن نحتاج ببساطة للكتف الذي ستقف عليه الدولة المصرية الحديثة، وليس للساق التي تحملها. لكن حتى هذا الدور "الكتفي" من اصعب الادوار على الاطلاق. إنه مسؤولية قد تساهم في تحديد شكل مصر للقرن القادم وما بعده.

مين هو طيب؟؟

حسناً..لو استثنينا الفلول والمهرجين والتوافقيين، لن يتبقى شخص يذكر سوى: حمدين صباحي، خالد علي، ابو الفتوح، حازم صلاح.

اما خالد علي فهو بالنسبة لي صندوق اسود (اقصد بالنسبة لي انا وليس لكل المجتمع، لأني لم اقرأ عنه شيئاً بعد) فلن اتحدث عنه حتى تظهر لي معلومات اخرى. من الواضح انه يحقق شرط الثورية، فهل يحقق شرط "الصاروخية"؟ هذا هو السؤال.

اما حمدين فأشعر انه عادل وشريف لكن لا اظن أن تكون تغييراته جذرية، بمنعى انه سيكون مثل عبد الناصر او السادات مثلا (في الجوانب الجيدة لا الجوانب القمعية) لكن في حكمه ستكون مصر في احسن الاحوال دولة عربية تقليدية قوية وليس دولة في طريقها لتضاهي اوروبا وامريكا.

ماذا عن حازم صلاح؟ اشعر ان كلامه تقليدي نوعاً ما ومشاريعه عن تعمير سيناء، ...الخ ليست هي الحل المطلق. كما اني لا اظنه مهتم جدا بموضوع الحريات. قد يكون اكثر المرشحين "اسلامية" او على الاقل اكثرهم اعلانا عن اسلاميته، لكن بدون شطر "الصعود" الذي ذكرته مرارا، يتساوى مع غير الاسلاميين.

حسناً ماذا عن ابي الفتوح؟ قد اكون مخطئا في حكمي - قد يكون في الواقع رئيس صعود عادي لا صاروخي - لكن من الذين هم امامي الآن اعتقد انه اقربهم لهذا، لأنه:
  • يركز على حرية الصحافة، استقلال القضاء، ...الخ وهي جوانب حيوية لا تقوم دولة حديثة بدونها.
  • يستعين بخبراء اقتصاديين وسياسيين محترمين. انظر مثلا لكلام د.رباب المهدي عن خطته السياسية: انها تقول ان الديموقراطية التشاركية (المتبعة في معظم البلاد) ليست كافية ولابد مما هو اعلى - حين تجد شخصا يقول ان النموذج الأمريكي للديموقراطية غير كاف فهو كلام عالم واثق بشدة من علمه. نفس الشيء مع الخبير الاقتصادي: هذا شخص يبدأ بالمصطلحات العلمية وكلام الخبراء منذ اول دقيقة للسلسلة التي يتحدث فيها عن البرنامج الاقتصادي.
  • لديه دبلوماسية نحتاجها في الفترة القادمة لتحل امريكا عن قفانا.
  • بدأ مبادرة اسمها "لمصر" لتجميع الخبراء لحل مشاكل الدولة والاستعانة بالشباب للعمل التطوعي. هذه توحي لي بشيئين: (أ) ان فكره يتماشى مع رأيي في ترك الدولة تنهض بنفسها ودعم الخبرات والطموح...فكرة الكتف لا الساق اياها. (ب) انه قد بدأ العمل في النهضة قبل تولي الرئاسة - كما انه اعلن نيته الاستمرار في المبادرة ولو لم يفز - وهذا يشعرني ان النهضة في الرجل لا المنصب.
  • انه...اسلامي :)

وبعد فإن رأيي متكون من معلومات قليلة وملاحظات متناثرة وقد يكون خطأً. لا تركز في قراري النهائي، لا تعتبرني موجهك الانتخابي. ابحث عن المعلومات بنفسك. الهدف الاساسي الذي اردته من هذا المقال هو فكرة "الصعود الصاروخي" وضرورته لكل شيء، ومنها المشروع الاسلامي -- ما عدا ذلك هو انطباعات اكثر منها كلام علمي. ولو خرجت من المقال بمبدأ الصعود هذا لكفاني. ولو اردت اخباري بمعلومات اغير بها رأيي فلا تتردد.

الخميس، 15 مارس 2012

ينقص الاستشهاد بمصدر

يوجد حاليا بوست على صفحة حازم صلاح ابو اسماعيل على الفيسبوك، يتحدث عن الجانب الزراعي من حملته الانتخابية. يقول بعد مقدمة قصيرة:

...هناك فكر خطير يشجع على الزراعة وإستصلاح الأراضي وهو تمليك الأرض الزراعية لمن يزرعها أو يستصلحها؛ بمعنى أنك تحفر بئر فى الصحراء، هذا البئر يخرج مياة تروي ألف فدان، الألف فدان ملكك تروي مئة فدان، المئة فدان ملكك بدون ان تدفع فلوس أخرى هذا يشجع الناس على زراعة الأرض. والحقيقة أن الأرض لا يهم من يملكها فالنبت نفسه بركة لهذه البلد وكفاية لشعبها.

مصر يمكن أن تملك أربعة أضعاف قوتها عن طريق عدة مشاريع منها:

1- أن تزرع الصحراء الغربية والخبراء يقولون أن الصحراء الغربية بها مياه جوفية تسهل جداً عملية الزراعة و تكفى شعب مصر بالكامل مدة قرن إلا ربع.. توفر لمصر خضار وأرز وقمح و فواكه.

2- سيناء تكفي لتوطين 5 مليون او 10 مليون شخص وتُزرع لأن تربتها من النوع الذي يمكن زراعته بمياه عالية الملوحة.

3- السودان التي عرضت علينا أن نزرع الأرض ونعطي السودان... وهذا المشروع سيُطعم مصر والوطن العربي كله.

إذاً عندى أربعة مشاريع تمكنني من أن أطعم مصر أربع مرات وأستطيع أن اوزع هذا الاستثمار بحيث أجعل مصر تملك قوتها ... تملك أبقار وتملك ألبان وتملك قمح ولا تحتاج لأحد مطلقاً.


في الويكيبديا حين يكون جزء من المقال بلا مرجع يضعون علامة "ينقص الاستشهاد بمصدر"، [citation needed]. وددت لو دخلت في البوست الأصلي ووضعتها بجانب كل نقطة من البرنامج:

  • "والخبراء يقولون أن الصحراء الغربية بها مياه جوفية تسهل جداً عملية الزراعة و تكفى شعب مصر بالكامل مدة قرن إلا ربع" من هم هؤلاء الخبراء؟ وما هي ادلتهم؟ وأين قياساتهم؟
  • "سيناء تكفي لتوطين 5 مليون او 10 مليون شخص وتُزرع لأن تربتها من النوع الذي يمكن زراعته بمياه عالية الملوحة" ما هو نوع التربة المذكور؟ هل له اسم علمي؟ أيضاً...أين الرابط بين كون التربة من ذلك النوع وكفايتها ل5-10 مليون شخص؟ وهل الزراعة كافية لتوطينهم في سيناء؟ ولو احتاج التوطين لعوامل اخرى فما هي؟
  • "السودان التي عرضت علينا أن نزرع الأرض ونعطي السودان... وهذا المشروع سيُطعم مصر والوطن العربي كله." هل هناك احصائيات باحتياجات مصر والعرب، وبانتاجية مشروع السودان، لكني نقارن بينهما؟
حتى لو افترضنا - جدلا - أن كل هذه العبارات هي حقائق مثبتة علمياً؛ لماذا لم يذكر أ/حازم صلاح مصادرها او ادلتها؟ هنا نأتي لفكرة "انا عارف، انا حاتصرف، انتوا مش محتاجين تعرفوا" ، وهي نفس الفكرة المعروفة بإسم "فرض الوصاية".

قرأت ذات مرة كتاب للإعجاز العلمي تأليف زغلول النجار، وكنت مصاباً بالإحباط لأن الكاتب لا يقول إلا "وقال أحد العلماء/وقال علماء الغرب/وقال العالم البريطاني جونز (بدون الاسم الكامل)/...الخ...الخ"، فلما فتحت قائمة المراجع لم اجد سوى....كتب اخرى للمؤلف نفسه. لا اقول هذا رفضا لفكرة الإعجاز العلمي، لكن رفضاً لاسلوب زغلول النجار، فهو اسلوب ببساطة...غير علمي.

هناك نوعان من الناس: نوع يقول "انا قمت بالبحث خلاص وفاضل ادي النتيجة للقاريء"، ونوع يقول "لابد ان اترك كل المصادر التي حصلت منها على نتائجي للقاريء يستنتج بنفسه". واحد يثق في ذكاء المجتمع، والآخر يحسهم جميعاً عوام لن يفهموا الكلام العلمي.

وإن لم تثق في ذكائي كقاريء فلن اضيع وقتي معك.

الثلاثاء، 13 مارس 2012

سنوات قطر 3 - انا مبرمج يوجه نفسه بنفسه

(هذا المقال هو الجزء الثاني من جزئين)

انتهى الجزء الأول بأنني قد تعلمت البرمجة. ولكن كيف مارستها وطورت نفسي فيها؟

كان الامر يعتمد على البيئة المحيطة، والبيئة المحيطة كانت جيدة جداً. في البداية كان في مكتبة المدرسة سلسلة كتب من دار النشر الانجليزية Usborne، وهي كتب من تأليف ورسم اشخاص شديدي الموهبة في جميع مجالات العلوم. اتجهت لكتب البرمجة فيها. إن كتب Usborne هي كنوز لم اجد لها بديلاً حتى الآن..كانت مشاريع البرمجة تتضمن العاباً، برامج مفيدة، مؤثرات..

كما كانت الكتب متقدمة تكنولوجياً. هناك كتب تعلمك تركيب sensor ضوءي بالكمبيوتر وصنع برنامج إنذار لو مر شخص او شيء أمام الsensor. هناك كتاب في السلسلة عن البرمجة بالـmachine language...

نعم. لغة الآلة، للاطفال، في الثمانينات. هذا هو الكتاب على موقع امازون إن لم تصدقني، وإن المقابلة رهيبة بين الغلاف الطفولي الملون وبين عنوانه الذي يرتجف له الكثير من طلبة هندسة وحاسبات :]

وهناك من يشك حتى هذه اللحظة في موضوع تعليم الأطفال البرمجة. هأ!

المصدر الآخر كان الكتب التي نشرتها شركة العالمية (المسؤولة عن كمبيوتر صخر)..كنت اخذ امي لمحل الكمبيوتر كل فترة لتشتري لي نسخة. هذه صور الاغلفة من مقال سابق كتبته..

كنت قد قرأت وقتها قصة في مجلة ماجد عن لغات الكمبيوتر (بطولة ذكية الذكية إن أردت أن تسأل) وذكروا اسماء بعض اللغات الشهيرة وقتها مثل Fortran, Cobol وذكرت أيضا لغة لوغو. تقول زكية "وهي عبارة عن سلحفاة صغيرة اوجهها بأوامري".

سلحفاة؟ لغة برمجة؟ ما الأمر؟ كان قد جاء مع كمبيوتر صخر كتالوج بكل البرامج التي صممتها "العالمية" له (وكانت كثيرة) منها صخر لوغو. وكانوا يرسمون في الكتالوج سلحفاة.

ذهبت انا وامي الى محل الكمبيوتر، وبحثت عن اللوغو، وقلت انني أريد أن أشتريه. قال البائع: هذا ليس لعبة أو برنامج تعليمي مثل البرامج السابقة، وهو برنامج صعب ولا يشتريه إلا من سيأخذ فيه دورة تدريبية.

- ولكني أريده!

قالت أمي: هل أنت متأكد أنه سيفيدك؟

- نعم!

وهكذا دفعت امي المائة ريال، وعدت ومعي لغة برمجة جديدة. الحق انني - مثل الكثيرين من جيلي - لا يرى اهله خبراء نموذجيين في التربية ويقول انهم كانوا يفرضون الوصاية...الخ لكنهم والحق يقال لم يحرمونني قط من مصدر للعلم. لقد وثقت امي بكلمتي امام كلمة البائع بلا تردد.

لم يكن برنامجا عادياً، كان دليل الاستخدام كثيفاً وليس بضع صفحات كالبرامج السابقة. وبدأت أقرأ. إن لغة Logo لها قصة فهي صممت اصلا للتعليم ومبنية على مباديء علمية حديثة اسمها constructionist learning وصممها خبير تعليمي اسمه Seymour Papert، وكانت لغة متطورة بها اشياء لم اكن احلم بها في الbasic:
- subroutine calls
- list data structures
- tail-call elimination
- سلحفاة

...ومع ذلك لم احبها كثيراً. إن كتابة كود بلغة بيسك تبدو كبرمجة، بينما لوجو تبدو كرياضيات او شيء..لم احب اللوجو حقا إلا حين احضرت كتاب "تعلم مع صخر لوغو" (وهو ترجمة موفقة لكتاب اجنبي) وحينئذ اكتشفت ان لوجو ليست مصممة كلغة بقدر ما هي وسيلة للتفكير في الهندسة، الرياضيات...الخ بوسيلة برمجية. بداية للتفكير الحوسبي كما يقولون.

وحين صنعت لغة "كلمات" كان تصميمي منذ البداية أن تبدو مثل البيسك وليس اللوجو. أريد لكود كلمات أن تبدو كبرمجة: سطور وراء بعضها كل سطر فيه امر، تحكم في تدفق مسار البرنامج. كلمات هي الوريث الفكري لصخر بيسك، مع تحديث طبعا وقوة اكبر بكثير :)



لكن مازالت "الوراثة" ظاهرة :)

جربت أيضا برمجة بعض الاجهزة الغريبة مثل Casio PB 1000، وهو يعتبر جد، جد، جد الPDAs أو الSmartphones الحديثة. كانت الشاشة اربع سطور..أربعة!! هذه صورته الأنيقة جداً. هلم وشاهدها قبل ان تحذفها الويكيبديا :]

حين عدت إلى مصر كنت قد اعتدت فكرة "البحث عن العلم بنفسي"، واجوب المكتبات في مصر بحثا عن الكتب البرمجية. كانت فترة انتقال بدأ فيها عصر "صخر" وامثاله يتلاشى ويظهر الحاسب الشخصي، ويعلو نجم DOS ومن بعده ويندوز. ورأيت لغات قوية لكنها رديئة الشكل مثل لغة اسمها السي. أول نموذج لكود سي رأيته في حياتي ولم افهمه وقتها كان هذا (لاحظ ان طريقة الكتابة مختلفة قليلا عن السي العصرية):

strlen(s)
char *s;
{
int n=0;
while(*s++) n++;
return n;
}

ما هذا؟؟ هل هي رسالة بالشفرة؟ أين هذا من PRINT, FOR, NEXT؟ أين هذا حتى من اوامر صخر لوغو عالية المستوى مثل اقرأ.حرف أو كرر؟ لا تظنني جاهل في السي او غير معترف بأهميتها، لغة كلمات مكتوبة بالسي++، لكن الآن أعتقد أنك قد عرفت لماذا اللغة اسمها 'كلمات' وليس 'رموز'.

مادمت قد قرأت المقال حتى النهاية عزيزي القاريء، سأقدم لك هدية اضافية: برنامج البيسك على صخر الذي نفذت به رسم الدالة في الصورة اعلاه. ارجو ان يعجبك :]

سنوات قطر 2 - انا مبرمج :)

هناك ثلاث مراحل للتطور الفكري في حياتي:
  • مرحلة الاهتمام بالنهضة والتاريخ وعلم الاجتماع...الخ، في 2008
  • مرحلة التعرف على الفرق بين البرمجة والcomputer science وانا طالب بالجامعة، وشغفي بالـ discrete math, logic...الخ
  • واهم مرحلة على الإطلاق: تعلمي البرمجة في الصغر والإعجاب بفكرة "المخترع". سنة 1987-1991 في سنوات قطر.

سنترك الاختراع لوقت لاحق، ونتكلم اليوم عن محمد سامي المبرمج الصغير :)
اول خطوة كانت كمبيوتر صخر. في البداية كنت استخدمه مثل أي طفل: كأنه جهاز اتاري. كان يعرض هذه القائمة حين افتحه:


ولو اخترت البيسك فكان هذا ما سأراه:


وكنت انظر إلى الشاشة والسؤال الذي يخطر على بالي هو..."ماذا أفعل بهذا الشيء؟؟" اجرب ان اكتب حروفاً عشوائية ثم اخرج من البيسك واشغل الألعاب. كان لابد من خطوة اخرى...

المدرسة

كنت في مدرسة بريطانية اسمها Qatar international school، مازالت باقية حتى الآن بل ولها الآن موقع على الإنترنت (ربما عرفوا انني سأدون عنهم). كان المعلمون فيها اجانب إلا قليل من العرب، منهم معلمة الكمبيوتر المصرية. وكانت تعلمنا برمجة أو على الاقل تحاول.

كان الترم كله تقريبا كالآتي:
  1. تكتب هي البرنامج على السبورة.
  2. نكتبه نحن على الكمبيوتر.
  3. غير مسموح لنا ان نعلن اننا انتهينا إلا حين يعمل البرنامج ويعرض النتيجة الصحيحة.
  4. حين تظهر النتيجة الصحيحة، نقضي باقي الحصة في الالعاب على الاجهزة.
ما هي نوعية البرامج؟ كانت نوعان: برامج تعلمك قواعد لغة البيسك بالامثلة، مثل يبرنامج يستخدم امر PRINT بصيغه المتعددة، والنوع الثاني برامج ظريفة أو نافعة مثل برنامج جدول الضرب أو حوار قصير مع المستخدم.

بعد ذلك، ربما الترم الذي يليه - لا اذكر - بدأت المعلمة تقول: يا شباب، الم تلاحظوا في البرامج التي كتبتموها ازواج من الكلمات دائما تأتي مع بعضها؟ إن FOR دائما معها NEXT، بينما IF معها THEN...الم تلاحظوا؟

اعتقد ان هذه الطريقة جيدة جداً على عكس المتوقع. لماذا؟
  • لقد تدربنا تدريبا كاملا على استخدام لوحة المفاتيح حتى حفظت ايدينا PRINT, FOR,...الخ. عدم الكتابة الجيدة كانت عائقا امام الاطفال الذين جربت تعليمهم بكلمات.
  • كان العرض بالامثلة قبل الشرح، وقد رأينا ان البرمجة تعطي نتائج ظريفة مثل جدول الضرب.
  • كان لا يسمح بالالعاب قبل تشغيل البرنامج بصورة صحيحة، فتعلمنا اهمية كتابة كل حرف، رقم، فاصلة بشكل صحيح.
  • كان هناك العاب في الموضوع فلن يكتئب الاطفال كثيراً.
ما الذي جعل المعلمة تستخدم هذه الطريقة التي لا يوجد فيها شرح لمدة ترم كامل؟ لا اظن انها كانت مهملة مثلاً أو غير مهتمة - كانت تصرفاتها ليست تصرفات شخص هكذا..هناك احتمال:
- انها ترى هذه الطريقة هي الصحيحة من مصادر علمية أو تربوية.
- انها تراها الطريقة الصحيحة كاجتهاد شخصي منها.
- انها فعلت ذلك لأنها خافت ان ينفر الاطفال من البرمجة، فقررت ان تمشي بالتدريج جداً.

المهم..كنت في ذلك الوقت اكتب البرنامج واشغله بطريقة ميكانيكية - مثل اغلب الاطفال - حتى العب باقي الحصة. لكن حدث شيئ ما في يوم من الأيام..اكتشفت فكرة جديدة: انا لست مضطراً أن اكتب هذه البرامج بالذات. يمكنني في الواقع ان اغير فيها لإعطاء نتائج مختلفة أو ان استخدم FOR, IF..وما شابه لكي اصنع شيئا من تصميمي. ماذا عن آلة حاسبة مثلاً؟

وهكذا بعد ان صنعنا البرنامج المطلوب في الحصة يقول لي صديقي البانجلادشي الذي يشاركني الكمبيوتر: لقد انتهينا..أي لعبة تريد الآن؟

فأردّ: الا يمكن ان تلعب على جهاز آخر؟ أنا أريد أن أجرب شيئاً...

(لا تنس قراءة الجزء الثاني)

الاثنين، 12 مارس 2012

ما هي بلدي؟

إحساس بالوحدة لا تحله الصحبة. يمكن ان اكون محاطاً بمائة صديق ويظل الإحساس موجوداً.
ادق تشبيه له هو الحنين إلى الوطن. لو كنت من خارج هذه البلد لكان تفسير هذا الشعور سهلاً...

كأني اقيم في بلد شقيقة لبلدي الأصلية: السكان ودودون ويتكلمون لغة قريبة من لغتك، ويكرمون ضيافتك، لكنك لست منهم وليسوا منك. فروق طفيفة هنا وهناك لكنها مرئية. دائما في نهاية اليوم، بعد العمل والحديث والاحتفال، تعود وتذكر أنك غريب.

لو كنت من بلد أخرى لكان التفسير سهلاً. لو كان لي ان اختار بلداً فما هي؟

سأخبرك امثلة عن الخلاف بيني وبينهم...كما قلت هي صغيرة، لكن بعد قليل هذه الاشياء "تنقح عليك"..

Subtelity

لا احب ان اقول كل شيء...احب ان اترك اشياء خفية في كلامي ورسوماتي وايماءاتي واترك القاريء يستنتج بذكاءه (مثلا لو نظرت للرسومات في اغنية قراقيش ستجد العديد من التفاصيل الصغيرة لا يلاحظها إلا مدقق). لكن يبدو ان الناس من حولي لا يحبون ذلك. ساضرب مثلاً طريفا..يوجد رسام كاريكاتير اسمه محمد سامي (ليس انا) رسم لنا هذه التحفة:

لم يكتف الرسام بشخصية تعبر عن رأيه، لكن قدم لنا ثلاثة شخصيات تقول نفس الشيء في بالونات حوار يكاد حجمها يضاهي حجم الشخصيات نفسها. غير انه يبدو انه شعر ان بعض القراء لن يفهم بالرغم من ذلك، فشرح المعنى مرة اخرى في عنوان بأعلى الصورة.

لو أراد الرسام، كان يمكن ان يزيل كل ما في الصورة ويترك فقط بطلها يمسك الزجاجة ويقول "أنا معايا فلوس، إذاً أنا اتكلم" وكان هذا سيرفع من جودة الكاريكاتير 400%.

(ملحوظة: الصورة استخدمها كمثال، ولا داعي لاستنتاج شيء منها عن آرائي السياسية. لو اردت معرفة آرائي السياسية الحقيقية؛ فهي عكس آراءك أياً كانت، بالعند فيك).

هذه اول مشكلة حين احاول التفاهم مع الناس: يوجد نقص في الsubtelity بل كل شخص يريد الزج بالفكرة زجاً في رأسك بكل الطرق الممكنة.

Suspense

احب المفاجآت، ولا احب ان اعرف كل شيء مرة واحدة. لا احب ان اعرف النتيجة من الكنترول. حين كان الناس يسهرون ليلا يتابعون عد الاصوات في الانتخابات كنت اتعجب. حين اذكر قصة لصديق اخاف جداً من ان "احرقها" له. لكن يبدو انني الوحيد الذي يفكر هكذا.

Minimalism

ذات مرة اردت التحدث عن قسمي في كلية الحاسبات. هذا هو الpresentation الذي قدمته:
هذه الصفحات الاربع، حين قدمتها، كانت السبب في دخول نسبة كبيرة من الطلبة لقسم علوم الحاسب وقتها. ماذا عن تقديمي لنبذة عن أهمية مواد الكلية، في السنوات الأربع؟ 13 صفحة في 35 دقيقة. وهي تقريبا افضل شيء ستسمعه عن الكلية.

والآن افتح أي جريدة واقرأ مقالا عشوائيا فيها...غالبا سوف تجد الصحفي يحكي ويكرر ويسرد ثم - على رأي معلم قديم لي - حين تفكر ماذا قال بالضبط تجد أنه لم يقل شيئاً.

احترام ذكاء الآخرين

وكثيراً حين اتكلم افترض ان الذي سيستمع إلى ذكي وانني لا ينبغي ان افصّل كل شيء، أو أحب أن استخدم تشبيهات واتركه يكتشف وجه الشبه؛ لكن...يعتبرني الناس اقول كلاماً غريباً لا معنى له. هل تعرف قصة "وافق شن طبقة"؟ القصة عن شخص ذكي سافر مع رجل ظن الأول احمقاً حتى جاء شخص آخر بنفس الذكاء وفسر له القول. القصة الكاملة ظريفة جداً :)

شلبي فوقوا يا بشر

ذات مرة أردت عمل سلسلة من الكاريكاتير بطولة شخصية اسمها "شلبي فوقوا يا بشر"، عن الشاب المصري الغاضب الذي يتحسر كل يوم على المصريين المتخلفين الذين هم السبب في رجوع البلد للوراء؛ ثم ينهي كل قصة بأن يعتصر قبضتيه ويصرخ "مش حتفوقوا بقى يا بشر!!!"

اشعر ان كل الناس تقريبا - خصوصا على الفيسبوك - قد صاروا تجسيداً حياً لهذه الشخصية. قد يريد القاريء أن يتهمني أنني قد صرت "شلبي" أنا الآخر بكتابتي هذا المقال، لكن تذكر انني هنا لا اتحدث عن "تخلف البلد"، أنا اتحدث عن طباعي الشخصية واحساسي الداخلي بالغربة. من حق الآخرين أن يفتقدوا الminimalism مثلاً بدون ان يكونوا سببا في رجوع المجتمع للوراء. حين تجدني اهاجم كل من هو ليس سلفيا أو إخوانيا او علمانيا، أو تجدني اتحدث ان كذا هو سبب رجوعنا للوراء، عندها أصير "شلبي" بلا جدل.

الأفكار

Great minds discuss ideas; Average minds discuss events; Small minds discuss people.
--Eleanor Roosevelt
كم حواراً مررت عليه يناقش احد الأشياء الآتية:
- البرادعي.
- اسماء محفوظ.
- حازم صلاح.
- وائل غنيم.
- الخ...الخ
هذه بالطبع شخصيات عامة تؤثر في الأحداث ومن حق الناس الحديث عنها لكن..هناك اشخاص لديهم fixation على هؤلاء: كل شيء يفعلونه إما انه عبقرية سابقة زمانها بمائة عام، أو جزء من مؤامرة شيطانية للإيقاع بالبلد.

كم شخص تحدث عن فكرة الانظمة الاقتصادية؟ أو معنى المسؤولية في الدولة؟ أو أي شيء حتى؛ لماذا لون الشفق احمر في الغروب او عدد ارجل العنكبوت أو معنى dual nature of electron، أو سبب اخذ الماء لهذه الاشكال بالذات حين ينسكب على التراب. أي شيء شيق ويستحق التفكير؟؟

لا عجب ان بعض من افضل الحوارات التي دخلت فيها في حياتي كانت مع اطفال.

ما هو وطني اذاً؟

عزيزي القاريء: هل تعرف بلداً بالصفات الآتية؟
- يحبون الـminimalism، subtlety, suspense
- يحترمون ذكاء الآخرين
- ليسوا "شلبي فوقوا يا بشر"
- يحبون الحديث عن كل ما هو مشوق، ولا يكثرون من الهوس بالآخرين كأبطال مثل صلاح الدين أو ملاعين
- لديهم حب استطلاع وتشوق للمعرفة كالأطفال

لو وجدتها فاخبرني لاهاجر إليها (لا ليست امريكا وهذا الكلام الفارغ) فقد حاولت في السنوات الاربعة الماضية ان احول مجتمعنا الحالي لمثل هذه البلد وفشلت. (قد يأتي قريبا من هو افضل مني وينجح، أنا واثق في المجتمع ولا أريد أن أكون مستعلياً عليه، وأنا بكل تأكيد لست "منقذه")

هذه المدونة، لغة كلمات، خطط النهضة، الندوات، المشاريع، ...الخ...الخ...كلها كانت رسالة لهذا التغيير، لكي أجد مجتمعاً لا اشعر بالوحدة فيه.

لكني تعبت. انهضوا انتم، أنا اريد ان ارتاح.

نقد تفصيلي لفيديو "انكسار الضوء"، إنتاج تحرير اكاديمي

مقدمة

هناك دور للفيديوهات التعليمية: أن تفهم العين مع الدماغ. نحن نقرأ عن الموجة (الكهرومغناطيسية)، الجاذبية، التفاضل، لكننا في الأغلب لا نراها. هنا يكون العلم بالنسبة لنا رمزياً: حروف يونانية مرسومة بجانب حروف يونانية اخرى، ونحن نتعامل مع الرموز بقوانين معينة لكي نحولها من شكل إلى شكل. هل هذا هو العلم؟ كلا!

بعض المبدعين يحاول اصلا التخلص من الاعتماد على الرموز في التعليم، مثل مشروع Kill Math لكن هذه "ثورة" لم تحدث بعد ولم تظهر ملامحها. نحن مازلنا نتكلم عن العلم بصورته التقليدية مع تبصير بالعين للظواهر قيد المناقشة.

هنا يكون المعيار الأساسي بالنسبة لي في الفيديوهات التعليمية هو: هل نرى الظاهرة التي تمثلها القوانين؟ وبالنسبة لهذا الفيديو الجديد من تحرير اكاديمي فإن الإجابة عندي هي: لا.

أين رسم الظاهرة؟

إن كانت هناك سمة عامة تميز الفيديو، فهو ان رسوماته جميلة جداً، لكنه يرسم كل شيء إلا الظاهرة العلمية التي يشرحها.

هذه امثلة للرسومات الموجودة في الفيديو:
  • رجال الكهف والديناصورات.
  • قوس قزح.
  • الاطفال على شاطيء البحر.
وهذه امثلة للرسومات غير الموجودة في الفيديو
  • الفيديو لم يرينا بأعيننا كيف ينعكس الضوء على الأشياء لنراها. هنا الرسمة كانت رجل كهف على ضوء النار، لكن لم نر الضوء وهو ينعكس!
  • حين يأتي ذكر مصطلح علمي، مثل "الموجات"، نجده يقول ان الضوء موجات، لكن لا يرينا كيف.
  • الفيديو لم يرينا الضوء وهو ينعكس على المرآه بحيث تساوي زاوية السقوط زاوية الانعكاس..فقط رسم خط من الضوء يدخل ويخرج من المرآه، واخبرنا شفاهاً ان الزوايا متساوية. حتى الكتب - تلك الوسيلة المتقادمة - لا تخلو من تلك الرسمة!
  • وأرى ان الفيديو اضاع فرصة ذهبية: لماذا ادى انكسار الضوء في الماء إلى تشوه صورة ساقي الولد؟ لقد اخذ يحكي ويحكي ثم حين جاء يشرح الظاهرة، رسم مستطيل يمر به خط...كان يمكنه أن يرينا اشعة ضوء كثيرة متوازية وهي تنعكس من على رجلي الطفل، ثم تنحني وتسقط على حائل فنرى سبب التشوهات في الصورة بالضبط . اعترف ان مثل هذه الanimation sequence ستكون صعبة نوعاً ما لكن...اليس الهدف من كل هذا هو الطموح وتطوير التعليم؟؟

هناك شيء آخر في الفيديو هو ان الرسمة كثيراً ما تخالف الوصف..نجد المعلق يقول "الضوء موجات، لكن ليس مثل موجات البحر" بينما الشاشة ترسم...موجات بحر! أو يقول اننا نرى قوس قزح، ثم يرسم شبابيك، ثم يقول المعلق "بس مش بنشوفه من الشباك!".

يبدو كأن مخرج الفيديو يعترف للجمهور بشيء؛ كأنه يقول "انا لم ارسم الظاهرة الحقيقية ورسمت شيئاً آخر بدلا منها، ولكن على الاقل اخبرت الجمهور ان الرسمة ليست هي الظاهرة الحقيقية!".

كيف نصلح الفيديوهات؟

لكي يكون نقدي بناء، سأقدم ما اراه تحليل لسبب المشكلة مع اقتراح لحلها: اعتقد ان السبب - في رأيي - ان فريق الفيديو مكون فقط من الgraphic designers، وربما فيه مدرسون، لكن ليس فيه كثير من العلماء-- فلذلك نرى الرسامين يعتمدون على ما تقدمه لهم مواهبهم الطبيعية: الديناصورات...الخ.

إن العالِم الذي يعيش حياته كلها مع الفوتونات والموجات والكهرومغناطيسية سوف يعرف كيف يمكن عمل رسم توضيحي للموجات، ويعرف بالضبط الاتجاه الذي سيسلكه كل شعاع ضوء حتى تبدو صورة الولد المموجة في الماء، وسيبحث عن افضل التشبيهات لظاهرة كذا أو كذا. نحتاج ان يجمع الفريق بين علماء يحبون الخيال متمكنين من علمهم، مع رسامين يحبون العلم وعلى استعداد ان "يذاكروا" لتكون رسوماتهم دقيقة علمياً.

الكل يعرف فيلم Wall-E، أليس كذلك؟ جزء كبير من الفيلم يحدث في الفضاء وانعدام الجاذبية...الخ، ولتحقيق هذا الهدف يعرف منتجوه شيئاً عن فيزياء الحركة في بيئة عدم جاذبية، واخذوا من طبيب فكرة تضاؤل العظم البشري في بيئة microgravity، واستعانوا بخبراء اضاءة من اجل styles معينة لانعكاس وانكسار الضوء، واستعانوا بمصمم الiPod ليحكم فعلا هل شكل الروبوت EVE "مستقبلي" أم لا، وبنوا الموضوع فعلاً على أساس علمي. لقد قرأت الجزء الخاص بإنتاج هذا الفيلم منذ يومين على الويكيبديا، وبصراحة تعلمت منه الكثير عن دور العلم والdesign في الإنتاج الفني.

النصيحة الآخرى هي التأكيد على احترام ذكاء الاطفال ..هناك فرق بين اضفاء روح المرح وبين اعتبار ان المشاهد عنده خمس سنوات..جملة مثل "يا ترى سبب تغير الصورة هو الشمس، أم الماء، ام ان نظر البنت ضعييف؟؟" لا ينقصها سوى "أن أن آآآآن!!!!" في آخرها :(

الاطفال اذكى مننا كلنا اصلاً. حتى ذوي السنوات الخمسة :)

الأحد، 11 مارس 2012

الأجهزة الالكترونية المبرمجة وتطوير التعليم

تكلمت قبل ذلك عن تعليم الاطفال البرمجة والتفكير الحوسبي وتطوير المدارس بطرق ابداعية. الآن سأتكلم عن افكار مرتبطة بالhardware وليس مجرد البرمجة. كي لا يغضب عشاق الembedded systems أو هندسة ;)

أنا أنوى إن شاء الله، كجزء من مشاريعي، العمل على استخدام مثل هذه التقنيات في اطر تعليمية أو أن يصنع المركز أشياء على هذا النطاق من افكار فريقنا الخاصة. لماذا نترك الأجانب يستمتعون هم بكل المرح؟ أيضاً لن ادعوك لأن تنتظر حتى ابدأ أنا..افتح انت مركزك او تضمن هذه الافكار في مدرستك او اصنع عنها مشاريع في كليتك. المجتمع ينتظرك!

المقال هذه المرة لم ابذل فيه مجهوداً كبيراً بقدر ما هو تجميع لمشاريع موجودة بالفعل...

الصانع الآلي (Makerbot)

هذا المشروع عبارة عن جهاز تكوين ثلاثي الأبعاد 3d printer، أي تصمم النماذج وهو يشكلها امامك من البلاستيك. تخيل نفسك تصمم اللعب مع اطفالك ثم تنتجها فوراً! أو حصة "رسم ثلاثي الأبعاد" في المدرسة، أو حصة اختراع، أو...أو...

فطيرة التوت (Raspberry Pi)

هذا الجهاز
عبارة عن كمبيوتر صغير جداً بحجم الكارت ورخيص جداً (25 دولاراً!!) مصمم بحيث يعطي وفرة حوسبية للاطفال: يمكن لأي طفل أو أسرة أو مدرسة ان تشتريه بلا خوف من التكلفة، وهو إن لم يكن حاسبا شخصياً يشغل ويندوز مثلاً فهو قوي بما يكفي لكي يتعلم الأطفال عليه البرمجة او يستخدم فيه برامج نافعة لإدارة وقته او كتابة الواجبات الدراسية...الخ

هناك فكرة ان الطالب ينبغي ألا يتعلم إلا البرامج التي سيعمل عليها حين يكبر (يعني excel, word...)..هذا تفكير قصير المدى؛ انت لا تعلّم الطفل كيف يقرأ البطاقة الضريبية...أنت تعلمه كيف يقرأ! ثم بعد ذلك يطبق معرفته على كل مجال موجود أو حتى لم يخترع بعد. اعتقد ان مثل هذا الجهاز خطوة جيدة في العودة لفكرة الكمبيوتر المنزلي المتاح للجميع. اعتقد ايضاً اننا ينبغي ان نبدأ بفكرة Raspberry ونطور فيها بشدة ولا نكتفي بالموجود! تخيل كمبيوترات رخيصة ذات كاميرا أو دوائر صوتية أو تشبيك WiFi أو...أو...

لا تفكر في الهاردوير فقط، بل الأهم أن تفكر في التطبيقات: بوجود هذه الدوائر ماذا سيتمكن الطفل المبدع أن يفعل؟ تخيل الطفل يمسك الكمبيوتر في يده كأنه مسدس (وهو كمبيوتر صغير ورخيص) ويستخدم الدائرة التليفزيونية ليراجع البرنامج تصويب الهدف على "الأعداء"...الآن تخيل هذه النوعية من اللعب وقد صممها الطفل بنفسه بوجود حاسوب رخيص بكاميرا + مكتبة معالجة صور قوية سهلة الاستخدام..

الأفكار في هذا المجال تكتب نفسها أصلاً...فقط تخيل!

حركات Kinect

نحن نعرف جهاز Kinect الذي يعمل على الX-box، ويرصد حركات يد، جسم، وجه...المستخدم ليتحكم بهم في اللعبة. الذي قد لا يعرفه الجميع هو انه هناك تيار لاستخدام الكينكت في التعليم التفاعلي وهذا موقعها.

كالعادة اقول: فكر في التطبيقات. فكر في تعليم السباحة أو الكاراتيه بوسيلة مثل هذا، أو فكر في لغة برمجة تركب بيديك فيها مكونات افتراضية لعمل برامج اكبر، أو برمجة ألعاب بأن "تمثلها" امام الجهاز ثم تضيف مكونات اخرى لتعميم ما تعلمه الجهاز من حركاتك.

البرمجة للأطفال مع الاجهزة: سكراتش.

سكراتش لغة برمجة للاطفال سهلة التعلم ولا تحتاج لكتابة كود ليعبر الأطفال عن انفسهم. الجديد هنا هو انه يمكن ربطها مع hardware خارجي أيضاً..مثلا لها لوحة كهربائية اسمها PicoBoard تقوم بدور "مجس" يخبر برنامج الطفل بقراءات من البيئة المحيطة، مثل معلومات عن الاصوات أو اللمس...الخ، وتوجد تجارب اخرى لتشغيل سكراتش مع اجهزة مختلفة.

أتمنى أن أرى مثل هذه المشاريع للغة كلمات: وهل توجد طريقة لشرح البرمجة بالأشياء OOP أفضل من...التحكم في أشياء حقيقية وإرسال رسائل لها؟

س = سيارة جديد
س: اتصل.بالجهاز( )
س: تحرك.امام(5)
س: انعطف.يمين(18)

تخيل (هذه الكلمة تتكرر) روبوتات صغيرة لعبة يبرمجها الاطفال لتحارب بعضها البعض، أو باستخدام البرمجة المتوازية - الموجودة بالفعل في كلمات - يتحكم برنامج الطفل في خمسة روبوتات لاسلكياً ليواجة برنامج صديقه في مباراة بين الروبوتات...أو آلي يرسم متاهة على فرخ من الكرتون ويكتب برنامجاً لسيارة لعبة لكي تمر خلال المتاهة...

...ثم حين يكبرون يصممون السيارة التي تقود نفسها :)


خاتمة

لا أريد أن يكون هذا مجرد مقال، بل أريده نداءً: الوطن العربي لا يخلو من المبرمجين والمهندسين وهواة الالكترونيات والembedded systems ومطوري التعليم المبدعين..

أريدها إن شاء الله أكبر من مشاريع مستقلة: أريدها حركة اجتماعية وكتب وحوارات على المنتديات واخبار في الفضائيات ومدارس حديثة. لو اردت عمل إضافة للغة كلمات أو ما شابه يسعدني الحديث معك عن التعاون. لو أردتها شيئا مستقلاً او حتى تطبيق للمشاريع السابقة كما هي فهذا عظيم. فقط أريد أن نلحق بهذا الجانب من الثورة التعليمية لا ان ننظر لها من بعيد كالسراب.

السبت، 10 مارس 2012

سنوات قطر - مصر التي لم أرها

يكون الطفل كياناً مدهشاً حتى يبلغ حوالي الرابعة عشرة، ثم يصير مملاً. يأخذ هذا التحول تقريباً اربع سنوات يكون فيها خليطاً من الإدهاش والملل حتى يبلغ الثامنة عشرة، فيكون مللاً تاماً. وبما إني لست بريئاً من هذا، فسأحكي لكم - اعزائي القراء - عن اهم خمس سنوات في حياتي: 1987-1992، حين كنت من سن 8 إلى 13، وقضيت هذه السنوات الخمس في قطر.

لعل من توابع هذه السفرية انني لم ار مصر في تلك الفترة! أتعجب دائما لماذا يسخر المصريين دائماً من بلدهم وانفسهم بينما انا غارق في التفاؤل (هذه المدونة تتحدث عن النهضة منذ 2008، قبل الثورة وفي اسوأ الفترات السياسية)، ربما يكون جزء من السبب انني لم اشهد مصر في الثمانينات! في التسعينات كان الأمر افضل قليلاً، أو على الاقل كان معتاداً..لكن في الثمانينات كان تحول مصر من دولة محترمة - أعني محترمة بما يناسب أي دولة عربية في تلك الفترة - إلى دولة يسخر منها الصديق قبل العدو.

كنت ارى عن مصر لمحات قليلة في التلفزيون والجرائد والافلام. أو من المصريين الآخرين المقيمين في قطر (وباستثناء بعض الأشخاص الافاضل، لم احب اكثرهم) وكانت الاخبار سيئة...

الافلام وقتها كلها تقريباً عن المخدرات (في التسعينات ستصير عن الإرهاب لكن لا نستعجل انفسنا)، المسلسلات كان العصر الذهبي لها نوعاً ما: رأفت الهجان مثلاً -- كانت امي تشاهد المسلسل وتبكي وهي تتذكر البلد التي فارقناها. الوسية (لو سمع عنها احد)...الخ، لكن الافلام، إن لم تكن عن المخدرات، كانت عن المادية والانتهازية والفساد. وكانت الجملة المتكررة في كل فيلم: "معاك قرش؛ تسوى قرش، ما معاكش؛ ما تسواش حاجة". اشعر أنه كان هناك قانون وقتها يلزم كل كاتب سيناريو ان يتضمن هذه الجملة وإلا سيعاقب بالسجن والغرامة.

والسيناريو الخاص بكل فيلم: شخص بدأ فقيراً، تعرف على شخص آخر "واصل" اجتماعيا بسبب الصفقات الفاسدة، اتفقا على جريمة كبرى تنقل هذا الشخص إلى مستوى اجتماعي اعلى بكثير، وإما ان الجريمة فشلت أو انها نجحت لكن الشخص نفسه تغير وصار متعاليا على المجتمع لا يبالي بالآخرين، ولابد ان يتضرر من جرائمه ابوه العجوز او اخته البريئة أو قريته التي آوته...الخ، وهكذا نعرف ان الجريمة سلوك خاطيء لكن ليس قبل أن يأخذ المشاهد جولة سياحية عن المجتعات الراقية والحفلات و...و...

(أشعر ان هذه القصة العامة مازالت موجودة في الافلام المصرية المعاصرة..لكني لا اشاهد افلاما مصرية لأتأكد).

لماذا اخذت ثلاث فقرات من المقال حديثاً عن الافلام؟ لأنها كانت هي المعلومات لدي، الطفل المصري بالخارج، عما يحدث في الداخل. لم اكن قد فهمت تماما معنى هذه الافلام والدوافع الاجتماعية وراءها إلا انه غالبا - على مستوى شعوري لا فكري - قد اوحت لي انه "هناك شيء خطأ" يحدث في الوطن.

الشيء الآخر الذي شعرت به ان الوطن العربي نفسه في مشكلة..دائماً الأخبار عن "حركة أمل، حركة فتح، منظمة التحرير الفلسطينية"...كانت اسماء كلها غريبة ومخيفة اذ لا تتردد إلا وهناك اخبار عن قصف او ضرب او قتل. لم اكن اعرف ان حركة اسمها "أمل" يمكن ان اشعر بالتوجس كلما سمعت اسمها.

كانت قطر عضواً في مجلس التعاون الخليجي، ودخلت مصر في شيء اسمه "مجلس التعاون العربي" الذي كان يبدو مبادرة من صدام حسين زعيم العراق. وقتها جلس ابي مع المصريين يمزح قائلاً "...ياللا افرح يا عم! بقى عندنا احنا كمان مجلس!" ورنة السخرية واضحة في صوته. في البداية تعجبت: لماذا لا يفرح ابي وهذه خطوة تجاه الوحدة العربية؟؟ لكن مع الوقت اتضح ان هذا المجلس لم يكن سوى حركات لا معنى لها، وسرعان ما لم يتحدث عنها احد بعد ذلك.

كان مجلس التعاون العربي "حركة" من سلسلة من الحركات السياسية قام بها صدام وانتهت "بحركة" غزو الكويت في آخر سنواتنا في قطر. اذكر حين كنا نشتري اقنعة مضادة للغازات، وحين كنا نشتري اللاصق ونسد به فتحات النوافذ، وحين كنت ارسم كاريكاتير عن "الغازات" التي سيطلقها صدام علينا...

احياناً اتعاطف مع صدام؛ لو كان شخصية في قصة لكان شخصية تراجيدية جداً عن الفتى الذي قام بانقلاب وظن نفسه زعيماً، ثم فشل المرة تلو المرة في أي محاولة لتحقيق تلك الزعامة، فالتفت تقتيلا في شعبه وجيرانه حتى مات مقتولا مهاناً على يد دولة اجنبية...ثم اتذكر ضحاياه من شعب الكويت، والمصريين العائدين في اكفانهم، وشعب العراق نفسه المعذب، ويذهب عني أوهام الشفقة.

هذه هي قصة كل "الثورات" العربية التي حدثت في الخمسينات والستينات، الرجل الذي يظن نفسه زعيماً، ويحاول في البداية ان يحدث نهضة وان يهدد امريكا وإسرائيل، ثم لا يلبث أن يكتشف انه فاشل عديم القدرة فيلتفت إلى بلده ينهب هذا ويعتقل ذاك ويعذب تلك إلى أن تصبح الدولة على حافة الانهيار، حتى تقوم ثورة حقيقية شعبية تنزعه من وهمه --إن لم يفعل الأمريكان ذلك أولاً.

شوية مجانين عملوا حفلة، كل واحد رجع بدولة، جه يشيلها ثقلت عليه، جه يركبها وقعت بيه...وفي الآخر شاطته ومشيت في حالها، قال ياريتني ما رحت الحفلة.

نعود إلى ذكرياتي في قطر...

كان من الواضح أيضاً ان مصر تمر بأزمة مالية. دائماً الحديث عن عاطف صدقي رئيس الوزراء الشهير، وعن شيء اسمه "تعويم الجنيه". وكل يوم ضريبة جديدة، حتى صار محمد الرزاز وزير المالية وقتها هو المصدر الرئيسي لنكت جريدة الاخبار. يتحدثون عن ضريبة التركات، وعن الدمغات لكل شيء والوزير الذي غذاؤه المفضل محشي ورق دمغة. وكان لدى الحكومة وقتها سلوكاً طريفاً هو حل المشكلة بتغيير اسمها لشيء آخر، مثلاً ألغوا ضريبة التركات المكروهة ووضعوا بدلاً منها شيئاً اسمه "رسم الأيلولة"، واذكر عاطف صدقي في حوار صحفي والمذيع يسأله شيئاً عن القطاع العام فيرد في غضب: "بتتكلم ليه عن القطاع العام؟؟ احنا اصلا لغينا القطاع العام خلاص! وحطينا بداله قطاع الأعمال العام".

(للامانة، اعتقد ان المشكلة كانت اكبر بكثير من عاطف صدقي، وان الرجل يبدو أنه كان له دوراً في نقل مصر إلى مرحلة "يمكننا الآن أخيراً ان نبدأ التطور الاقتصادي" التي ظهرت في التسعينات (لكن تحولت فيها الدولة إلى دولة رجال الاعمال، مما ادى لظهور امثال احمد عز، لكن هذه قصة اخرى)).

ذات مرة اقيم معرض للمنتجات المصرية في قطر، وذهبت مع ابي وامي له، لنجد: منتجات رديئة غير متقنة، اشخاص غير ودودين، كل شيء غالي مبالغ فيه. كان بعض المصريين يظنون ان اهل الخليج سذج يسهل النصب عليهم. طبعاً كان الافتراض خطأ ولم يشتر احد منهم بضاعتهم الكوميدية -- أي التي تصلح للعرض في فيلم كوميدي عن المحلات الفاشلة -- وعدنا نشعر بالخجل من هؤلاء العارضين الاغبياء الذين اساؤوا لكل مصري في هذا اليوم.

شيء آخر - قام امير قطر (خليفة بن حمد وقتها) بزيارة لمصر، والصحفيين المصريين يسألوه عن كل شيء، ثم سألته احدى الصحفيات "هل هناك مساعدات ستقدمها قطر لمصر؟ مساعدات سياسية، مساعدات كذا، مساعدات مالية؟"

(كانت الصحفية تتحدث صوتيا لكن كلمة "مساعدات مالية" كانت مكتوبة بالخط الثقيل مثلما كتبتها أعلاه، صدق او لا تصدق)

نظر الشيخ خليفة اليها نظرة تقول "من علم هذه مهنة الصحافة؟؟؟" ثم رد رداً دبلوماسياً لا اذكره على غرار "من الطبيعي ان تتحدث الدول عن التعاون الاقتصادي أو ان تعاون الدول بعضها عند الضرورة". كان يتكلم بعصبية لأن السؤال فعلاً....!!

في تلك الفترة كان حسني مبارك مازال يعمل (كان حاكما ظالما لكن...على الاقل كان وقتها يعمل ولا يقيم في شرم الشيخ) وكانت هوايته وقتها هو زيارة الدول العربية أو دعوة زعماءها لزيارة مصر. كان لنا دور ما في العلاقات الخارجية والقضية الفلسطينية...الخ، وعلى الطريقة المصرية كان هناك لافتة كبيرة خارج المطار مكتوب عليها "مرحبا بضيف مصر الكبير" لا تتغير ابداً، قال يعني بقى كل ضيف حييجي يفتكرها محطوطة مخصوص عشانه. اذكيا احنا مش كدة؟؟ (ربما لا تزال هذه اللافتة موجودة حتى الآن..المفروض أن اذهب واتأكد)

القصد، كانت هذه عينة مما رأيته عن مصر في الثمانينيات...وإن كانت هذه هي العينة فما بالك بالبلد نفسها؟ احيانا اتعجب من سلبية كثير من الناس وتشاؤمهم، ثم اتذكر: لو عشت تلك الأيام في تلك الظروف لكان من السهل جداً أن تكون سلبياً..انا تربيت بعيداً عن هذا كله في جو من الاستقرار الاجتماعي والراحة المادية، ومع ذلك كنت اكتئب من الافلام او الاخبار او العينات القليلة التي أراها..سوف اتسامح قليلاً مع كل شخص سلبي في سن الثلاثين فما فوق، اما ابناء العشرينات وما تحتها فلم افهمهم بعد :)

لقد اخذت مصر الكثير حتى تنهض من تلك الفترة ولا تزال كثير من عواقبها معنا. احتاج الامر للمصلحين امثال عمرو خالد وغيره، ودخول الانترنت والفضائيات التي كشفت للناس وجهات نظر جديدة (كانت هذه من المميزات النادرة لحادثة حزينة هي غزو الكويت...أن وعى الناس للقنوات الاجنبية والمستوى الصحفي العالي)، وظهور موضة تطوير الذات وكيف تعامل زوجتك وكيف تربي ابناءك...الخ، وظهور جيل احدث من المفكرين والمعلمين والكتاب والعلماء والمدونين في كل المجالات وحتى احيانا افراد من الحكومة القديمة يحاولوا ان يحركوا الأمر للأمام.

ولا ننسى اهلنا: إن الثورة تهاجم كثيراً الجيل القديم المتخاذل وتفتخر بأنها ثورة شباب - وفي هذا معها حق - لكن ذلكم الجيل الذي تعلم السير بجوار الحائط هو نفسه الذي كان يذهب للخليج ليقضي عمره في غربة، او يبقى في مصر يركب الاتوبيس ويتحمل المدير المتعسف ويكوّن الجمعية، حتى ينهض جيل من شباب الطبقة الوسطى يخافون على الحق اكثر من خوفهم على الوظيفة. وهم في هذا لهم التقدير.

كفانا حديثاً عن السياسة. ربما في الجزء القادم اتحدث عن مدرستي في قطر مرة اخرى أو شيء :)