الثلاثاء، 22 فبراير 2011

خطة للنهضة(1): المجتمع الذي نعيش فيه

[المحتويات: الجزء الأول (هذا المقال)، الجزء الثاني ، الجزء الثالث، الجزء الرابع]

انظر نظرة سريعة إلى ما نحن فيه الآن...

قد خرجنا لتونا من ثورة (أو انتفاضة)، وهناك حديث كثير عن الديموقراطية، والتقدم الاقتصادي، والبحث العلمي، وعن دولة جديدة.

لكننا لا نستطيع أن نفعل كل ذلك ونحن كما نحن نفس الأشخاص. كل خطوة من الخطوات السابقة لها ثمن فكري لابد أن نجهز لدفعه. لا أتكلم فقط عن "الاستعداد للديموقراطية" أو "ثقافة الديموقراطية" التي يتحدث عنها البعض، بل أتكلم عن مستوىً فكريٍ شامل في كل مجالات الحياة، دينية وسياسية واقتصادية وعلمية واجتماعية...

هناك شيئان أركّز عليهما هنا:
  • المستوى الفكري العام للمجتمع
  • القيم الاجتماعية
(لا أقصد القيم بمعنى الأخلاق فقط...بل بمعناها في علم الاجتماع؛ مثلا المجتمع الأمريكي يحب فكرة فتح الشركات وعمل المشاريع، المجتمع الاوروبي له قيم متعلقة بالحرية الفردية "أحترم حريتك إن لم تتعد على حريتي"....الخ، وعلينا ان ننتقي القيم المرغوب فيها ونفصل بينها وبين غير المرغوب فيها. سيتضح الأمر بعد قليل).

لماذا هاتين النقطتين؟ تعال نتكلم أولا عن الإسلام وحياتنا.

هناك في كثير من الناس فقر بالمعرفة الاسلامية. بدايةً من مباديء الحياة اليومية (كثير من الناس لا يعرف كيفية التيمم مثلا) ومروراً بمعنى كلمة "فتوى" وشروط من يفتي، والتمييز بين فتوى علمية ورأي شخصي. هذا الفقر يؤدي لأن يكون المجتمع معرض لمن يريد تضليله. معرض لأن يأتي أي شخص يقوم بارتداءِ جلبابٍ ويبدأ في الحديث عن الإسلام كأنه يعي ما يقول ويقدم لك سيلاً من المغالطات، ومن الناس مَن قد يتأثر بهم لعدم معرفته بأي شيء عن الفتوى والفقة.

ثم ونحن الآن نتكلم عن الديموقراطية ودولة جديدة ودستور جديد سيكون أمامنا تحدٍ كبير يتمثل في الصراع بين الإسلام والعلمانية (العلمانية هي الدعوة للحكم بالقوانين البشرية والفصل بين الدين والدنيا، والكلمة اصلها مرتبط بـ"العالم" -المقصود الدنيا- وليس بـ"العلم"). في بدايات القرن الماضي كان هناك حوار وطني طويل بين الراغبين في الحكم بالإسلام وبين العلمانيين، دار هذا الحوار في الكتب وفي الصحافة وفي الندوات وحتى على المقاهي، وأتوقع الآن أن يدور مثل هذا الحوار وقد يأخذ سنيناً طويلة..

نقطة مهمة هي أنه في بدايات القرن الماضي كان الناس على درجة واسعة من الثقافة، وكنت تجد كتابا عن المجتمع المصري مؤلفه موظف بالبريد أو مقالاً كتبه مدرس ثانوي...كان المجتمع كله على مستوىً فكريٍ عالٍ يسمح بأن يكون الجميع طرفاً في الحوار، إما مستمعاً وإما مشاركاً، ويسمح للحوار أن يكون على مستوىً راقٍ يبتعد عن السطحية. فإن أردنا أن يكون الحوار الحالي بنفس القوة فيجب تجهيز المجتمع نفسه فكريا لذلك، وإلا بدلاً من أن يكون حواراً قوميا فسيكون حوار في قاعة كذا فندق كذا ولم يستمع له أحد.

هناك أيضاً دور مهم للعلوم البشرية في هذا الحوار، ودور لها في العلوم والأنشطة الإسلامية عموما، من فقه وتفسير ودعوة...الخ
كيف نستفيد من النظريات القانونية الحديثة في الفقه الإسلامي؟ ماذا عن النظريات السياسية الحديثة والحكم الاسلامي؟ ماذا عن الاقتصاد الإسلامي؟ السياسة الخارجية الإسلامية؟

ما المنافع الاقتصادية من تحريم الربا؟ ما المشاكل الاجتماعية التي يحلها السماح بتعدد الزوجات؟ ألا ينبغي الاستعانة بالأبحاث في مثل تلك المواضيع أثناء الدعوة للإسلام؟ أبحاث حقيقية مؤكدة بالأرقام والإحصائيات وليس مجرد اجتهادات فكرية؟

[ملاحظة: هناك بالفعل مؤسسات إسلامية تجري مثل هذه الأبحاث وأكثر؛ هدفي هنا ليس نقداً أو القاء لومٍ على أحد بل التوعية بأهمية العلوم الدنيوية في خدمة الإسلام]

ماذا عن العلوم الأخرى مثل النحو ودوره في التفسير وما شابه؟ هناك محاولات كثيرة ظهرت لتطوير علم النحو العربي، بعضها بعيد عن الصواب والآخر قد يكون قد اقترب من الصواب (إلى حد ما)، ألا ينبغي أن يكون هذا نشاط يعترف بأهميته المجتمع كله ويقوم به الكثير بدلاً من أن يكون نشاطاً فردياً؟ إنني أرى من علامات النهضة في أية مجتمع اهتمام الناس بلغاتهم؛ وفي النهضة الأوروبية ظهر نشاط واسع في كتابة القواميس وضبط قواعد اللغة الانجليزية (مثلا)، وحتى الآن في بلاد مثل أمريكا تجد الناس ينقدون من يرتكب الأخطاء الإملائية أو النحوية بينما لدينا لا تجد قيمة اجتماعية لهذا الموضوع في الأصل -- أو بمعنى أصح كان لدينا هذه القيمة بشدة ثم اندثرت.


الآن تعال نتكلم عن الاقتصاد. من أهم الأشياء في أية مجتمع أن يكون لديه طبقة وسطى قوية (الطبقة الوسطى هي بين الأغنياء شديدي الغنى والفقراء -- مثلا الأطباء، أساتذة الجامعة، فئة من التجّار، المبرمجون). هذه الطبقة لديها ما يكفي من الاطمئنان الاقتصادي لكي تبدأ في التفكير في المجتمع من حولها، وفي الحق والباطل والعدل والظلم والنهضة العلمية، بينما إذا انقرضت تلك الطبقة ستجد كل شخص مشغول في كسب الرزق أو سداد الديون فلا يجد متسعا لما وراء ذلك.

الديموقراطية في أوروبا نفسها بدأت بظهور طبقة من الحرفيين والتجار والصناع نمت شيئا فشيئا حتى قويت وتركز جزء كبير من ثروة البلاد في أيديهم فلم يعد الملوك يستطيعون السيطرة على هؤلاء كما كانوا يفعلون مع الفقراء، فاضطروا لإرضائهم والتنازل لهم عن السلطات شيئا فشيئا.

نريد إذاً - إن استطعنا - أن نغير قيم المجتمع بحيث يكون المجتمع أقدر على تكوين تلك الطبقة الوسطى وتنميتها والحفاظ عليها.

من القيم التي نريد تغييرها هي قيمة تفضيل الأمان على الطموح (مثلاً تفضيل الوظيفة المستقرة على فتح شركة). ومن المستويات الفكرية التي أتمنى رفعها هو فكرة ادارة الناس لأموالهم؛ إن معظمنا علاقته بأمواله بسيطة جدا: خذ المرتب أول الشهر، انفق بعضه وادخر بعضه، انتهى؛ بينما في مجتمعات اخرى هناك علوم كاملة لإدارة الأموال الشخصية تشبه إدارة أموال الشركات: كم تدخر؟ كم وأين تستثمر؟ كيف تحدد لنفسك اهدافا اقتصادية للمدى الطويل (مثلا سنة كذا أريد شراء بيتا أوسع) وكيف تتقدم نحو هذه الأهداف؟

أيضا لابد أن يفهم الناس مباديء الاقتصاد كي نستطيع عمل حوار قومي عن دور الدولة في أشياء محددة. مثلا أنا ممن يؤيد بشدة فكرة مجانية التعليم ويرى أنها حاجز واقٍ للمجتمع، ووسيلة للحراك الاجتماعي (مثل انتقال فرد من الطبقة الفقيرة للطبقة الوسطى)، وضرورة أساسية للنهضة العلمية. هناك من يخالفني في هذا، لكن إن أردنا أن يكون حوارنا علميا لا آراء شخصية، وأن يكون حوارا وطنيا لا حوار افراد، فيجب أن يكون المستوى الفكري للمجتمع أعلى وأن يعرف الناس شيئا عن علوم الاقتصاد والاجتماع.


نأتي الآن لفكرة أخرى: فكرة العلم المستشري.

كل حين نسمع عن إحصائية على غرار "الأوروبي يقرأ س من الكتب كل عام، الياباني يقرأ ص من الكتب كل عام..." ثم في النهاية لابد من الإحصائية المضحكة عن العربي الذي يقرأ في المتوسط كتاب ونصف في العام.

دعنا من السخرية من أنفسنا قليلاً ولنفكر بالعكس: ما الذي يجعل الأوروبي يقرأ كل هذه الكتب أصلاً؟ وماذا سيستفيد من هذا؟؟

إجابة الجزء الأول هي أنه يقرأ هذه الكتب لأن المعرفة هي قيمة اجتماعية لديه في حد ذاتها. لا ينبغي أن يكون سيحصل على شهادة أو وظيفة لكي يأتي بكتاب ويقرأه بل هو يحب إثراء ثقافته كما يحب غيره المركز الاجتماعي مثلاً.

الجزء الثاني: وهل سيفيد هذا؟ أجل:

أولاً لابد أن يتعرف الناس على العلم ليدركوا كيف يسير البحث العلمي وكيف تتقدم الأمم علمياً. تخيل مثلاً لو أرادت الدولة في مصر تخصيص مائة مليون جنيه للبحث العلمي وتم تقديم اقتراحين: انفاق المائة مليون كلها في تطوير طائرة نفاثة جديدة أو انفاق خمسين مليون للطائرة النفاثة وخمسين لتطوير نظرية رياضية جديدة. أخشى أن يأتي الكثير ممن يطالبون بوضع المال المخصص كله للطائرة النفاثة، وأن تجد الناس يشكون من هؤلاء المغفلين الذين يريدون تضييع نقود الدولة في المعادلات الرياضية!

وقد حدث موقف مشابه معي وانا طالب بالفرقة الأولى في الكلية: جاء التلفزيون ليرى مشاريع التدريب الصيفي التي قام بها الطلبة، ووقفوا طويلاً أمام موقع للأنترنت قام اصدقائي بتصميمه واعتبروه خطوة جميلة للأمام ثم جاء دور مشروع فريقي أنا، وبدأت أتحدث عن برنامجنا الذي يحسب العمليات الحسابية ويرسم الدوال ويشتقها. هذا لم يقفوا أمامه كثيراً ووجدت أحدهم يعلق بأن يقول أنني "بتاع الدوال". هذه مشكلة؛ إن علم التفاضل والتكامل وما تفرع منه هم مكون اساسي في كل الاختراعات تقريباً في القرون القليلة الماضية: الطائرات، الاقمار الصناعية، المصانع، الكمبيوتر، وحتى كاميرا التليفزيون التي يحملها ذلك الشخص، لم تكن لتظهر لولا علوم الدوال الرياضية. وإن أردنا أن نخترع أي من هذه الأشياء فيجب أن يطلع الناس على العلوم ويعرفوا كيف يساهم كل علم في التقدم البشري ولماذا يدرسه الناس أصلاً.

ثانياً، العلم لابد أن يكون قيمة اجتماعية ليكون الدافع للتقدم العلمي داخليا (يريده الناس بأنفسهم) لا خارجيا (يريده الناس من اجل مكافأة أو خوفاً من عقاب). لو نظرنا مرة أخرى لفترة النهضة الأوروبية كنا سنرى الاختراعات تأتي متتالية وراء بعضها؛ هذا يطور مضخة فيأتي هذا ويطور محركا ويأتي هذا فيطور العدسات فيأتي ذاك يطور التلسكوب ويأتي هذا فيطور الميكروسكوب فيأتي هذا يكتشف الجراثيم فيأتي هذا يكتشف المضاد الحيوي...كل ذلك معناه أن الاختراع قد صار شيئاً في دماء فئةٍ كبيرةٍ من الناس وليس فقط في يد وزارةٍ للبحث العلميّ أو في مركزٍ للأبحاث. معنى هذا أن الناس أنفسهم كانوا متعطشين للعلم والاستكشاف.

ثالثاً، أنت لا تعرف متى ستأتي فائدة للمعلومات التي تقرؤها من الكتب في حياتك. الباحثون في علوم الكمبيوتر يستفيدون مثلاً من الأحياء والفيزياء (فكر مثلاً في مصطلح حوسبي مثل "neural network" أو "polymorphism" أو "simulated annealing")، مؤسسو المواقع مثل Facebook يستفيدون من علم الاجتماع، تفكيري الشخصي في موضوع النهضة بدأ من قراءة في التاريخ. ثم أن كل منا بحكم كونه مواطن يريد أن يعيش في دولة ديموقراطية عليه أن يفهم شيئاً من الفقه وعلوم الاجتماع والاقتصاد ومباديء البحث العلمي...الخ كما ذكرنا.

نحن نريد أن يكون العلم هو نشاط اجتماعي كامل يشارك فيه جميع الشعب بكل فئاته صغاراً وكباراً؛ وأن يكون له قيمة اجتماعية تجعلهم يعملون ويبحثون ويتطلعون إلى أهداف أكبر فأكبر.


قد عرفناً إذاً الاتجاهات التي أرغب أن تسير فيها في خطتنا للنهضة، وعرفنا فكرة رفع المستوى الفكري وتغيير القيم الاجتماعية. يبقى شيء أريد أن أقوله:

أتمنى، إن شاء الله، أن تكون خطتنا للنهضة هي خطة صلبة أو متينة. لا أقصد الصلابة بمعنى الجمود وعدم المرونة ولكن أقصد الرسوخ والثبات أمام العوائق (فكر في مثل كلمة robust في هندسة البرمجيات التي تعني أن يكون النظام البرمجي ثابتاً أمام الأخطاء البرمجية أو حتى مشاكل ال hardware).

بتفصيل أكثر عن نقطة الصلابة، أنا أسأل هذه الأسئلة عن خطة النهضة المقترحة:
  • هل هي تعتمد على الحكومة بحيث لو زال الدعم الحكومي تزول الخطة؟ (ونحن نسمع كثيراً عن الوزير الجديد الذي يأتي فيلغي كل مشاريع الوزير السابق، ولا أتوقع أن يختفي هذا بين يوم وليلة).
  • هل هي تعتمد على مؤسسة معينة أو شخص معين تختفي باختفائهم؟
  • هل قيادتها مركزية بحيث إذا مات قائدها أو يئس أو اختلف مع باقي الفريق تتعرقل الخطة؟
  • هل يمكن تطبيق هذه الخطة في مجتمعات عديدة وظروف مختلفة أم انها مناسبة لبيئة اجتماعية، وتلك البيئة فقط؟
  • هل ستستفيد الخطة من التطورات التي تحدث اجتماعيا وسياسيا وتكنولوجيا أم انها جامدة لا تتطور؟
خلاصة
  • خطتنا تعني برفع المستوى الفكري للمجتمع وتغيير القيم الاجتماعية.
  • خطتنا مبنية على ثلاثة محاور: العمل بالإسلام، طبقة وسطى قوية، علم مستشري.
  • نود أن تكون خطتنا صلبة، لا تعتمد على قيادة معينة أو دعم حكومي ، تستفيد من التغيرات التي تحدث حولها وتقبل التطبيق في مجتمعات كثيرة.
وهل يمكن أن يكون هناك خطة بهذه المواصفات؟ وما شكلها إن وجدت؟

اقرأ الجزء الثاني!

هناك 3 تعليقات:

Ahmad Mansour يقول...

شكرا يا دكتور محمد..من احسن الحاجات الى قراتها بعد الثوره ..ياريت كلنا ننشر الكلام ده..

MS يقول...

شكرا يا دكتور على المقال..نحن بانتظار المقال القادم الذي ستخبرنا فيه عن كيفية تنفيذ هذه الخطة..او بمعنى اخر
"the detailed plan"

Mohamed Ramadan يقول...

الأهداف نبيلة و محمودة و اعتقد ان كثيرا من الناس تتفق معها
و يأتي الأهم هو الخطوات و ان تكون منطقية و توضح دور كل فرد علي حسب موقعه.
بمعني لو انت اب يجب ان تفعل كذا... لو انت طالي يجب انت تفعل كذا...لو انت موظف قطاع خاص يجب ان تفعل كذا... الخ
و بذلك يستطيع كل واحد ان يعلم المطلوب منه علي حسب دوره في المجتمع و يصبح لكل فرد دور ينفذه.
ثم يأتي انتشار الفكرة و التسويق لها.

جزاكم الله خير يا دكتور و جعلها في ميزان حسناتك ان شاء الله