لقد صارت علوم الحاسب مؤثرة تأثيراً ثورياً على البحث والاكتشاف العلمي. وباختصار فإنه يكاد يستحيل القيام بأي بحث في أي مجال علمي أو هندسي بدون التفكير حوسبياً. ثم أن تأثير الحوسبة ليمتد أبعد بكثير من البحث العلمي ليؤثر في حياتنا جميعاً. لكي يزدهر في عالمنا اليوم، فإن كل شخص منا يحتاج للتفكير الحوسبي.
وفي مقالات سابقة لي فإني لم أمل من تكرار جملة أن التفكير الحوسبي يتوقع له تأثير على العلم يشبه تأثير النهضة الأوروبية. المشكلة هي أنني لم اصف قبل ذلك - بالتفصيل - لماذا يتوقع ذلك التأثير! ربما من السهل على المبرمجين او المهتمين بعلوم الحاسب ان يشعروا بهذا الأثر، لكن ماذا عن الأشخاص خارج هذا المجال؟
هذا المقال هو مجموعة من الأفكار حاولت تجميعها لأفسر للقاريء - خاصة خارج المجال - أهمية هذا العلم.
تفاصيل بلا التباس
تدور علوم الحاسب حول الخوارزمية Algorithm، وهي سلسلة من الخطوات الثابتة تقدم للكمبيوتر لينفذها. لا يستطيع الكمبيوتر ان يفهم نية المبرمج، لذلك يجب ان تكون التعليمات مفصلة ومحددة جداً. أي جزء غير محسوب أو مبهم يؤدي لئلا يقبل الكمبيوتر تنفيذ البرنامج، أو أن ينفذه بنتائج خاطئة.
في مقابل ذلك فكر كيف نقوم نحن البشر بالتعامل احيانا مع العلوم أو القوانين أو سائر الأنشطة: احيانا نترك بعض الأجزاء غير محددة، أو ننسى تدارك كل الاحتمالات المختلفة في المسألة التي نتعامل معها، أو نترك أجزاء معينة يفسرها القاريء بنفسه (مما يؤدي لتعدد التفسيرات والخلاف عليها كما في القوانين).
ولكن لو وصفنا نشاطنا العلمي والبشري بطريقة قريبة من الطرق البرمجية كلما أمكن فإننا نتخلص من كثير من هذا اللبس والغموض، ويكون التفاهم بين البشر والبشر - وليس فقط البشر والآلة - أوضح وادق كثيراً.
لغة مشتركة بين العلوم
لقد كان لعلم مثل الجبر دوراً عظيماً في النهضة العلمية الحديثة، لماذا؟ لأنه لغة مشتركة بين كل العلوم المعروفة! فكر في المحاسبة، أو الهندسة الكهربائية، أو الآحياء، أو الطبيعة؛ وستجد فيها دوراً للجبر بصورة أو أخرى. غير ذلك: لو احتاج علم معين إلى تطوير في فهمنا للجبر فإن ذلك التطوير يعود بالمنفعة على كل العلوم الأخرى، ويفيد النشاط العلمي كليةً.
وإن علوم الحاسب لعلها تكون مثل الجبر للقرن الحادي والعشرين، وتكون لغة موحدة لعلوم بشرية اكثر وأعمق، وتقدم لنا أداة مشتركة للتعامل معها جميعاً.
وهذا واضح أمام أعيننا لو نظرنا حتى لسوق البرامج: فكل يوم يظهر تطبيقات في مجالات مجتمعية وطبية ورياضية وفنية وعلمية، وكلها تستخدم نفس مباديء علوم الحاسب - هي هي - لتصف هذه النشاطات.
لم يبق لنا إذاً سوى استخدام علوم الحاسب لوصف والتفاهم حول هذه المجالات بيننا وبين انفسنا، وليس فقط بيننا وبين الآلة.
لغة لوصف العمليات السارية
تشبه البرامج خطة أو وصفة كوصفات الطهي يأخذها الكمبيوتر وينفذها (ولكن ليس منفذها بالضرورة آلة، قد ينفذها إنسان أو فريق من البشر).
وفكرة "خطة ثابتة مكتوبة يتم تنفيذها في عملية جارية غير ثابتة" هو من أهم الأفكار البشرية، ويمكننا أن نتخيل بدلا من برمجة التطبيقات أو الألعاب، أن "نبرمج" أي إجراء آخر مثل إجراءات تشغيل الشركات أو الإجراءات القانونية أو الخطط العسكرية أو العمليات الجراحية أو الدروس التعليمية أو الفن التفاعلي أو أي شيء يمكن وصفه بأنه إجراء أو عملية؛ سواء قام بها بشر أو جهاز.
وسيلة للتفكير في الكفاءة بطريقة علمية منظمة
يهتم علماء الحاسب كثيراً بالكفاءة، فهم يريدون للبرامج أن تحل المشكلة المطلوبة في أقل عدد من الخطوات وبأقل موارد ممكنة. ومن أجل هذا فقد طوروا علوما راقية وفنوناً.
اخترعوا مثلاً مقاييس رياضية مثل time complexity ليمكن بها المقارنة بين كفاءة وسيلتين لحل نفس المشكلة، والمشاكل نفسها صنفوها في فصائل حسب كفاءة افضل حل ممكن لكل منهاـ وهناك كتب وابحاث وعلماء لا يعدون قد تخصصوا لأجل هذا الجانب الذي يعد اساسيا في مجالنا.
الآن تخيل هذا التراث العلمي الغني وقد تم تطبيقه على كل العمليات البشرية: في المستشفيات، في المصانع، في شركات النقل، في كل ما يمكن وصفه بأنه إجراء أو عملية كما ذكرنا. كم يا ترى سنوفر من الوقت والمال، بل وفي إنقاذ الحيوات البشرية؟
لغة، نَصِف بها تفكيرنا!
وإن نفس الوسائل الفكرية لنجدها تتكرر في كل مشكلة وكل تطبيق: مثلاً فكرة الـgraph، أي مجموعة من العناصر وعلاقات بينها، نجدها في شبكة النقل بالمدن، وفي علم الحديث، وفي الابحاث العلمية التي يتخذ بعضها البعض مراجع، وفي الmind maps، وفي آلاف التطبيقات.
أو حتى فكرة اصغر في علوم الحاسب مثل فكرة الطابور queue: تجدها في ممرات الإقلاع والهبوط في المطار، وفي إرسال البيانات عبر الإنترنت، وفي تنظيم المهام إدارياً، وفي طباعة الوثائق، وهكذا.
هذه الأشياء البسيطة في ظاهرها، الـgraph أو tree أو queue أو stack، هي خبز علماء الحاسوبيات الذي يعيشون عليه: يبحثون فيها ويكتبون الأبحاث عنها منذ عقود، كيفية التعبير عنها رياضياً بكفاءة، كيفية حساب خصائص معينة لها (مثل أقصر طريق بين نقطتين)، وغير ذلك الكثير.
إن هذه الأبحاث تعتمد عليها الحياة الحديثة: تخطيط الطرق في المدن، أو خطط المشاريع والجداول الزمنية، أو الاستهلاك الأمثل للمواد الخام في المصانع، أو صنع الدوائر الكهربائية، كلها تعتمد على هذه الوحدات البسيطة.
والأن فكر معي: ماذا لو اخرجنا هذه المفاهيم من حظيرة علوم الحاسب وقدمناها للناس كافة في المدارس الإعدادية والثانوية كما يأخذون الحساب والجبر، ولم تعد حكرا على مجال من المجالات بل صارت جزءا من التفكير كله؟ ألا تدرك معي ضخامة الأمر وتأثيره؟ التفكير الحوسبي!
أرجو أن أكون قد ساهمت في توضيح أهمية هذا العلم الجديد الشيق.
هناك 3 تعليقات:
اتمنى ان يتغير الحال
الموقع القادم يقدم مجموعة من الألعاب لتعليم الأطفال التفكير الحوسبي
http://games.thinkingmyself.com/
إرسال تعليق