الاثنين، 2 أبريل 2012

إنما هي صورة كلية

ومعنى قاطيغورياس باليونانية، يقع على المقولات. والمقولات عشر، وتسمى: القاطاغوريات.

(من "مفاتيح العلوم" للخوارزمي)

يحب المجتمع كثيراً وضع النفس بين اختيارات: المنطق ام البديهة؟ الوراثة ام البيئة؟ العلم ام المكسب؟ الاشتراكية ام الرأسمالية؟ الويندوز ام اللينكس؟ واحياناً يسموها صراعات: الصراع بين الاجيال، الصراع بين الرجل والمرأة..وصراعات اخرى اسوأ.

اعتقد ان هذا نابع من الثقافة الغربية، وهي بدورها نابعة من المنطق اليوناني. لقد كان اليونانيون مولعون بالمنطق والتصنيفات، كل عبارة لديهم هي اما صواب ام خطأ بالدليل المنطقي، كل شيء يقسمونه إلى اصناف انيقة تسمى categories...وكل فكرة صحيحة فلابد ان يكون ما يناقضها يجانب الصحة.

وفي الثقافة الغربية الحديثة ظهر ما يسمى reductionism...تفكيك كل شيء إلى مكونات اصغر: الانسان ما هو إلا خلايا، والخلايا ما هي إلا بروتينات، وهي بدورها ما هي إلا جزيئات. وكل شيء ما هو إلا مكوناته. ويقول المرء هذا ويظن نفسه قد بلغ من كل شيء علماً.

لكننا لا نرى هذا في الشرق. ان الكلمة نفسها (جرب ان تنطقها) توحي بالسحر والتنوع والغنى. الشرق لا يكتفي بالعقل، انما يعرف قيمة الاحساس البديهي. الشرق لا يهمه فقط الفعالية، بل يعرف قيمة الجمال. انظر للمباني الاسلامية القديمة: تجمع بين المتانة والزينة. انظر للزخارف الاسلامية: تجمع بين الرياضيات والجمال. انظر للمباني الصينية، انظر للخط العربي.

الشرق لا يهتم بكل جزئية على حدى. بل بالكل مع بعضه.

حين تأتي لغات البرمجة من الغرب تجدها - الا قليلاً - جافة ومليئة بأشياء عجيبة مثل static, void, x++, protected

بينما اللغات من الشرق تأتي مثل Ruby، يقول مبرمجها انه اراد لغة يستمتع الناس وهم يبرمجون بها. ياللهول! بينما الجميع يتحدث عن الperformance، maintainability نجد شخصاً يتحدث عن حالة المبرمج النفسية! الا ينبغي ان يسخر المبرمجون - هذه الكائنات العقلانية - من سفاهته؟ ومع ذلك فهي اللغة الناجحة التي تكتب لها الكتب وتعقد لها المؤتمرات.
5.times { print "hello" } if x == 5

كذلك لغة كلمات لو لم تلاحظ..لا اقصد الكتب والمؤتمرات (هذه لعلها آتية) بل الاهتمام بالحس البشري والشكل الجمالي.

حتى كلمة "شكل جمالي" ليست ظريفة جداً، انها توحي ان الفعالية منفصلة عن الجمال، وان الجمال هو "شكل" خارجي بينما المحرك الفعال يعمل بالداخل. وإن تعلمنا شيئاً من شركة Apple فهو ان الصورة تتبع الوظيفة، والوظيفة تتبع الصورة، وان الشكل الجيد لا يأتي إلا من بناء داخلي جيد، وأن وضع صورة جميلة بالفوتوشوب على برنامجك لا يجعله برنامجاً جيداً.

صحيح..هل قلت لكم ان ستيف جوبز متأثر بالثقافة الشرقية؟ هذه حقيقة لمن يعرف قصة حياته.

لقد صارت فكرة "الكلية" جزء من فلسفة العلم نفسه. نظرية dual nature of electron التي تجمع بين نظريتين عن طبيعة الالكترون. فكرة ان المادة والطاقة شيء واحد بصور مختلفة (معادلة آينشتين الشهيرة). حتى المنطق: لم يعد يكفي دائماً الحد الفاصل بين "صواب" و"خطأ" بل صار هناك تطبيقات تحتاج مستويات بين ذلك (مثلاً fuzzy logic). إن الامور تتغير.

حين تقدم نظرية علمية، حاول ان تفكر في صياغتها والفهم البشري لها، وليس فقط الدقة والشمول.

حين تقدم مواد تعليمية، لا تجعلها مواد جافة صماء، ولا تجعلها مجرد صور جميلة، ولا تجعلها مواد جافة صماء معها صور جميلة..بل اجعل الجمال والعلم ممتزجان...

هذه فكرة الكلية: انها ليست ان اجمع "أ" مع "ب"، وإنما ان اجعل "أ" و "ب" كل منهما يغذي الآخر ويعتمد عليه.

حين تقدم برنامجاً سياسياً، لا تجعله مجرد شعارات عاطفية تثير الحماس على لا شيء، ولا تجعله محاضرة مملة في علم الاقتصاد وفلسفة السياسة. تذكر: لقد صنعت هذه العلوم لخدمة البشر، كي تكون سيوفاً نصارع بها الفقر والقمع والتخلف...ارسم لنا صورة غنية تنساب من النظريات إلى المجتمع.

ودعك من الصراعات على غرارالصراع بين الاجيال او بين الرجل والمرأة..هذه اختيارات مزيفة انني يجب ان اؤيد احداً منهم دون الآخر.

هل معنى ذلك ان الثقافة الغربية لا فائدة منها؟ بل بالعكس تماماً! إن المنطق والرياضيات اساس العلوم الحديثة، وهناك صراعات فعلا مجتمعية موجودة في مجتمعات نراها. وهناك افكار صحيحة بينما نقيضها خاطيء. لا ينبغي ان يفسر المرء فكرة "الكلية" بأن يهدم الجدار بين الجميل والقبيح، الصحيح والخاطي، العلم والخرافات، ويقول انها مسألة آراء واننا نقبل كل شيء ولا نرفض شيئاً..هذا تطرف لا داعي له.

وهذا هو جمال فكرة "الكلية": إنها تأبى ان تزيح بالكامل فكرة "الجزئيات" أو "القاطاغوريات" على رأي اليونان - هي سلاح قوي ويفيدنا ان نستخدمه، فقط ليس كل شيء في الحياة يمكن تصنيفه إلى خانات انيقة.

هناك 4 تعليقات:

Issam Elbaytam يقول...

Nice article I enjoyed reading it a lot . Jazak Allah Khair.

Mohamed Samy يقول...

@Issam

جزانا وإياكم
Always happy with your visits to the blog :)

Anas A. Ismail يقول...

حين تقدم نظرية علمية، حاول ان تفكر في صياغتها والفهم البشري لها، وليس فقط الدقة والشمول.
حين تقدم مواد تعليمية، لا تجعلها مواد جافة صماء، ولا تجعلها مجرد صور جميلة، ولا تجعلها مواد جافة صماء معها صور جميلة..بل اجعل الجمال والعلم ممتزجان...

دول فعلا .. أكتر حاجتين بنفتقر إليهم في الناحية العلمية في بلادنا ... !!
عجبتني "ياللهول" أوي ..:)

Mohamed Samy يقول...

@Anas

عجبتني أنا كمان :)