هذا المقال عن الإدارة والمجتمع، لكن أولاً لابد أن نتحدث عن جحا.
وأحياناً يكون لدى الإنسان فكرة لكنه لا يجد الكلمة التي يعبر بها عنها، وقد وجدت مصطلحاً للفكرة التي في بالي: الفونسة الجحوية (بفتح الفاء وتسكين الواو)، وتعريفها: الميل لاتباع وسيلة واضح أنها لا تحل المشكلة المطلوبة، لكنها الأسهل في التنفيذ.
ولو بحثت في مجتمعنا لوجدت فونسات كثيرة.
نبدأ بشيء في شركات البرمجة: تقييم إنجاز المبرمج بعدد سطور الكود التي كتبها كل يوم. أي شخص برمج قليلاً يعرف ان هذا ليس مقياساً لأي شيء؛ بل إن المتمرسين في البرمجة سيخبروك أن التعبير عن البرنامج بكود أقل غالباً ما يرفع من جودته ويقلل فرص الأخطاء، وأن الإنجاز الحقيقي في تقليل سطور البرنامج لا تزويدها.
لكن هناك ميزة رهيبة للتقييم بعدّ السطور: إنها عملية سهلة! يمكن كتابة برنامج يعد سطور الكود في ثوان، ثم في دقائق برنامج يصنع رسوماً بيانية تخبرنا بعدد سطور الكود لهذا المبرمج كل يوم، وبنظرة واحدة يمكن ملاحظتها صعودا وهبوطاً. وفجأة يصير كل شيء بالأرقام والجداول والرسوم ويشعر الجميع أننا نسير على منهج علميّ.
ثم ننظر للمدارس الخاصة فإذا بها تحب البطولات. بطولات رياضية أو مسابقات أو شطرنج أو أي شيء -- المهم أن يكون له ترتيب ونتائج بالأرقام ومسابقة على مستوى الجمهورية (أو الأفضل: على مستوى دولي). وبذلك تستطيع المدرسة بكل ثقة أن تضع إعلاناً في الجرائد "مدرسة كذا تهنيء طلابها على حصولهم على المركز الأول في..."، على أمل أن يقرأ أولياء الأمور الإعلان ويذهبوا بأبنائهم لتلك المدرسة المتفوقة.
هل هناك صلة علمية بين فوز المدرسة ببطولة كذا وبين حُسْن تعلم الإبن فيها؟ لكن لماذا نرهق أنفسنا بهذه الحيرة بينما الترتيب في المسابقة لا يكذب، بالضبط مثل الرسومات البيانية التي تعدّ سطور الكود؟
أو استخدام الكمبيوتر في المدارس (وهذه مشكلة في الدول الأجنبية وليس فقط لدينا)، يمكنك أن تدرس علم النفس التربوي، وتبحث في نظريات التعليم، وتجري التجارب، وتحسن اختيار المعلمين، ... أو يمكنك أن تعقد صفقة مع شركة ما لتضع كمبيوتر tablet في يد كل طفل، وتصنع تعاقداً آخر مع شركة برمجيات لتصنع برامجاً دراسية مليئة بالرسوم المتحركة، بدون أي تقييم حقيقي للأثر الذي ستحدثه هذه الإضافات، وإني لن أعجب لو رأيت مدرسة تقليدية بسبورة - لكن معلموها خبراء باحثون - وهي تمسح الأرض بمدرسة مليئة بالحواسيب والتعليم الإلكتروني لكن بدون تخطيط علمي.
أو يمكنك الحديث عن النهضة بمشاريع على غرار تنظيف الشوارع أو دورات تنمية بشرية (وهي أمور قد تكون نافعة لكنها لن تكون ما يحدث النهضة) ولا تفكر في القضايا الكبيرة، لأن الأولى أسهل وقد خبرها الناس وعرفوا كيف ينظموها.
لابد من الخروج من دائرة "أن نفعل ما نعلمه ولو لم يحل المشكلة". لابد من الخروج من دفء عمود النور ومد يدنا في الظلام..
كان جحا منهمكاً في البحث عن شيء في الشارع، تحت فانوس الإضاءة. فسأله جاره: علام تبحث يا جحا؟؟
قال: عن قرش وقع مني في البيت.
فتساءل الجار: ولم تبحث عنه هنا وقد سقط في البيت؟
رد جحا: هنا نور وهناك ظلام.
قال: عن قرش وقع مني في البيت.
فتساءل الجار: ولم تبحث عنه هنا وقد سقط في البيت؟
رد جحا: هنا نور وهناك ظلام.
وأحياناً يكون لدى الإنسان فكرة لكنه لا يجد الكلمة التي يعبر بها عنها، وقد وجدت مصطلحاً للفكرة التي في بالي: الفونسة الجحوية (بفتح الفاء وتسكين الواو)، وتعريفها: الميل لاتباع وسيلة واضح أنها لا تحل المشكلة المطلوبة، لكنها الأسهل في التنفيذ.
ولو بحثت في مجتمعنا لوجدت فونسات كثيرة.
نبدأ بشيء في شركات البرمجة: تقييم إنجاز المبرمج بعدد سطور الكود التي كتبها كل يوم. أي شخص برمج قليلاً يعرف ان هذا ليس مقياساً لأي شيء؛ بل إن المتمرسين في البرمجة سيخبروك أن التعبير عن البرنامج بكود أقل غالباً ما يرفع من جودته ويقلل فرص الأخطاء، وأن الإنجاز الحقيقي في تقليل سطور البرنامج لا تزويدها.
لكن هناك ميزة رهيبة للتقييم بعدّ السطور: إنها عملية سهلة! يمكن كتابة برنامج يعد سطور الكود في ثوان، ثم في دقائق برنامج يصنع رسوماً بيانية تخبرنا بعدد سطور الكود لهذا المبرمج كل يوم، وبنظرة واحدة يمكن ملاحظتها صعودا وهبوطاً. وفجأة يصير كل شيء بالأرقام والجداول والرسوم ويشعر الجميع أننا نسير على منهج علميّ.
ثم ننظر للمدارس الخاصة فإذا بها تحب البطولات. بطولات رياضية أو مسابقات أو شطرنج أو أي شيء -- المهم أن يكون له ترتيب ونتائج بالأرقام ومسابقة على مستوى الجمهورية (أو الأفضل: على مستوى دولي). وبذلك تستطيع المدرسة بكل ثقة أن تضع إعلاناً في الجرائد "مدرسة كذا تهنيء طلابها على حصولهم على المركز الأول في..."، على أمل أن يقرأ أولياء الأمور الإعلان ويذهبوا بأبنائهم لتلك المدرسة المتفوقة.
هل هناك صلة علمية بين فوز المدرسة ببطولة كذا وبين حُسْن تعلم الإبن فيها؟ لكن لماذا نرهق أنفسنا بهذه الحيرة بينما الترتيب في المسابقة لا يكذب، بالضبط مثل الرسومات البيانية التي تعدّ سطور الكود؟
أو استخدام الكمبيوتر في المدارس (وهذه مشكلة في الدول الأجنبية وليس فقط لدينا)، يمكنك أن تدرس علم النفس التربوي، وتبحث في نظريات التعليم، وتجري التجارب، وتحسن اختيار المعلمين، ... أو يمكنك أن تعقد صفقة مع شركة ما لتضع كمبيوتر tablet في يد كل طفل، وتصنع تعاقداً آخر مع شركة برمجيات لتصنع برامجاً دراسية مليئة بالرسوم المتحركة، بدون أي تقييم حقيقي للأثر الذي ستحدثه هذه الإضافات، وإني لن أعجب لو رأيت مدرسة تقليدية بسبورة - لكن معلموها خبراء باحثون - وهي تمسح الأرض بمدرسة مليئة بالحواسيب والتعليم الإلكتروني لكن بدون تخطيط علمي.
أو يمكنك الحديث عن النهضة بمشاريع على غرار تنظيف الشوارع أو دورات تنمية بشرية (وهي أمور قد تكون نافعة لكنها لن تكون ما يحدث النهضة) ولا تفكر في القضايا الكبيرة، لأن الأولى أسهل وقد خبرها الناس وعرفوا كيف ينظموها.
لابد من الخروج من دائرة "أن نفعل ما نعلمه ولو لم يحل المشكلة". لابد من الخروج من دفء عمود النور ومد يدنا في الظلام..