قد مر حوالى خمسة عشر عاماً على إنشاء كلية الحاسبات. حان الوقت للتفكير في كيفية تجديد شبابها وتجهيزها للمرحلة القادمة. لديّ بعض الأفكار الاستراتيجية من أجل هذا الهدف: تقليل العدد، صورة الكلية لدى المجتمع، العامل البشري.
تقليل العدد
لابد أن نعترف الآن أن عدد طلبة الكلية حالياً أكثر من اللازم، وهذا يضر الطلبة أنفسهم إذ لا يأخذون الفرصة في التعليم المطلوب أو التقييم. ماذا عن سوق العمل؟ هناك نظرية أن الفرق في مستوى المبرمج يؤدي لفرق كبير جداً في إنتاجيته: أي أن مبرمجاً عبقرياً قد يقوم بعمل عشرة مبرمجين عاديين، ومبرمج مذهل قد يقوم بعمل مائة...
لذلك فأنا أرى أن دفعة صغيرة من خمسين أو مائة مبرمج يتم انتقاؤهم بحرص ويتعلمون جيداً قد تقوم بدور في السوق مثل مئات المبرمجين في الصورة الحالية للكلية.
- هؤلاء قد يرفعون مستوى الشركات التي سيعملون فيها ويطورون اسلوبها
- هؤلاء قد يتعين منهم الأساتذة الذين يرفعون مستوى التعليم والبحث العلمي
- هؤلاء قد يفتحون الشركات ويغيرون من شكل الاقتصاد
في رأيي أنه على إدارة الكلية أن تفكر في هذه النقطة جيداً وتفعل كل ما تستطيع مع المجلس الأعلى للجامعات لتقلل العدد قدر المستطاع.
صورة الكلية أمام المجتمع
مشكلة كلية الحاسبات أنه من الصعب تعريفها لدى الشخص العادي: الطبيب يعالج، المهندس يبني، ماذا يفعل المبرمج؟ لهذا يأتي كل شخص بنظريته الخاصة [المبرمج يستخدم فوتوشوب، المبرمج يبيع هارد ديسكات، المبرمج يجلس أمام الفيسبوك...الخ].
المشكلة الثانية أن الكلية لا توجد لها قصص نجاح معلنة بما يكفي (أقصد أن لها قصص نجاح كثيرة لكن المعلن منها قليل) هذا يؤدي للحوار الآتي:
نريد أن نكون نحن أيضاً طرفاً في الحكاية، فكيف نفعل ذلك؟ الخبر الجيد أن 95% من الحل موجود بالفعل بين أيدينا ولا يبقى سوى ال5% الباقية: إن كان الإعلام المصري لا يعرف الكثير عن البرمجة (وهذا طبيعي لأي إعلام) فهو يعرف ما هو الاختراع ويحب قصص المخترعين.
انظر مثلاً لهذا المقال في جريدة الشروق عن مشروع تخرج يسمح لمستخدم الكمبيوتر بالتحكم فيه عن طريق تحريك يده. الآن انظر إلى تعليقات القراء على المقال؛ وكيف يحتفون بالمشروع ويعتبرونه إنجازاً مصرياً كبيراً...الخ.
نحن في حاسبات كل سنة تقريباً لدينا مشروع أو أكثر مثل هذا، التحكم في الكمبيوتر بتحريك اليد، والعين، والأذرع، وبالصوت، وبجهاز رسم المخ -- حتى أنني في سنة من السنين مللت هذه النوعية من المشاريع وصرت أقول للطلبة أن يفكروا في أفكار أخرى، لكن.......المجتمع لا يعرف ذلك!
[لم أقصد انتقاد صاحب المشروع في هندسة أو شيء من هذا، المشروع محترم لكن كلامي هنا عن المستوى العلمي لكليتي أنا]
لدينا مشاريع تتعامل مع اللغة العربية، لغات برمجة جديدة، مشاريع روبوت، مشاريع علمية، لكن المجتمع لا يعرف. ويظنون البلد متخلّفة :(
ماذا يكلفنا أن نأتي بكاميرا فيديو ونصور كل هذه المشاريع التي تبدو كالخيال العلمي ونضع كتالوج بكل هذا على موقع Youtube؟ ماذا يضيرنا أن نكلم كل الصحف والمحطات التلفزيونية لتأتي أيام المشاريع وترى؟ لا أتوقع أن يكلف هذا مالاً في إعلانات، بل يكون الموضوع خبراً لا إعلاناً لأن الصحفيون أنفسهم يبحثون عن مثل هذه النوعية من الإنجازات. أتخيل الآن العناوين:
أريد أن يصير اسم حاسبات مرتبطاً بالاختراع، هذا هو التعريف الذي أريده في ذهن المجتمع.
وطالما نتحدث عن اليوتيوب، لماذا لا يكون هناك قناة على الإنترنت للطلبة والخريجين يتحدثون عن خبراتهم في حاسبات كنصائح لطلبة الثانوية العامة؛ عن مميزاتها وعيوبها وكيفية التفوق فيها لمن يدخلها؟ لا أريد إعلانات الجامعات الخاصة إياها عن المعامل والحدائق بل أريد شيئاً حقيقياً من طلبة حقيقيين عن العلم والتعلم والتخرج والتوظف. أليس هذا هو الهدف الأصلي؟
ماذا عن قصص النجاح للخريجين؟ نحن لدينا معيدون يدرسون للدكتوراة في المانيا وكندا وأمريكا..لا يكاد يكون هناك قارة في العالم إلا وهناك خريج حاسبات ذهب إليها للحصول على الدكتوراة من إحدى جامعاتها، لماذا لا يعرف أحد شيئاً عنهم؟
لدينا من الخريجين في شركة مايكروسوفت بالولايات المتحدة وكندا حتى لتظن انه هناك فرع من الكلية هناك، لمَ لا يعرف أحد شيئاً عنهم؟
ماذا عن الخريجين الذين قد أسسوا شركات؟
هناك ألف شيء آخر يمكن عمله، مثل FAQ عن الكلية تتداول الأسئلة الشائعة عن سوق العمل والنقابة والمعاهد...الخ. فكرت أصلاً في جعل هذه الوثيقة في صورة قصص مصورة comics لكي تغري الناس بقراءتها. من يبحث يجد ألف فكرة.
[تعقيب: قد أتبعت كلامي بعمل وبدأت خطوة صغيرة في هذا الاتجاه.]
العامل البشري
الكفاءات هي التي تصنع أي مؤسسة، وغياب الكفاءات هو الذي يهدمها. لا يضاهي الكفاءات في الأهمية سوى الجانب الإداري. معادلة النجاح المؤسسي هي
كان وكيل سابق في كليتنا (وأستاذ لي) يقوم بدور مهم جداً في منصبه: كان يفتش عن الكفاءات أينما كانت. في كليات الهندسة، كليات الحاسبات الأخرى، ربما الجامعة الأمريكية...في فترة من الفترات كنت لا تكاد تتحدث عن دكتور جيد في الكلية إلا ويحتمل أن يكون ذلك الوكيل هو الذي دعاه للتدريس لدينا.
نحن نحتاج إلى هذا من جديد! لابد من البحث عن الأساتذة الممتازين في كل مكان داخل وخارج مصر، ودعوتهم لتقديم المواد في الكلية. لابد من توفير المغريات المناسبة التي تجعلهم يرضون بالمجيء، ليس فقط المال لكن بيئة علمية جيدة، فرصة لتغيير المجتمع، بحث علمي حقيقي...الخ
ولابد أن تكون البيئة مهيئة لا فقط لجذبهم لكن للاحتفاظ بهم، فالشخص الكفء لديه مطلق الحرية أن يعمل في أية مكان يشاء، ولو رأى المكان لا يشجع فلا يوجد فتفوتة شيء يُكرهه على البقاء.
البحث عن الكفاءات وجذبها، توفير البيئة التي تستثمر كفاءتهم، توفير ظروف الإبقاء عليهم. هذه يجب أن تكون الأولوية القصوى لأية مؤسسة لا فقط الكليات.
هناك جوانب أخرى للمناقشة في حوار تجديد شباب الكلية؛ مثل شكل المناهج، طريقة التدريس، علاقة المواد ببعضها...وهي كلها أشياء مهمة حقاً ولا ريب جديرة بالمناقشة، لكني أرى النقاط الثلاثة السابقة نقاطاً استراتيجية لابد من الانتباه إليها، بل وأن ضبط هذه النقاط يساعد بشدة في النقاط الأخرى من مناهج وخلافه.
تقليل العدد
لابد أن نعترف الآن أن عدد طلبة الكلية حالياً أكثر من اللازم، وهذا يضر الطلبة أنفسهم إذ لا يأخذون الفرصة في التعليم المطلوب أو التقييم. ماذا عن سوق العمل؟ هناك نظرية أن الفرق في مستوى المبرمج يؤدي لفرق كبير جداً في إنتاجيته: أي أن مبرمجاً عبقرياً قد يقوم بعمل عشرة مبرمجين عاديين، ومبرمج مذهل قد يقوم بعمل مائة...
لذلك فأنا أرى أن دفعة صغيرة من خمسين أو مائة مبرمج يتم انتقاؤهم بحرص ويتعلمون جيداً قد تقوم بدور في السوق مثل مئات المبرمجين في الصورة الحالية للكلية.
- هؤلاء قد يرفعون مستوى الشركات التي سيعملون فيها ويطورون اسلوبها
- هؤلاء قد يتعين منهم الأساتذة الذين يرفعون مستوى التعليم والبحث العلمي
- هؤلاء قد يفتحون الشركات ويغيرون من شكل الاقتصاد
في رأيي أنه على إدارة الكلية أن تفكر في هذه النقطة جيداً وتفعل كل ما تستطيع مع المجلس الأعلى للجامعات لتقلل العدد قدر المستطاع.
صورة الكلية أمام المجتمع
مشكلة كلية الحاسبات أنه من الصعب تعريفها لدى الشخص العادي: الطبيب يعالج، المهندس يبني، ماذا يفعل المبرمج؟ لهذا يأتي كل شخص بنظريته الخاصة [المبرمج يستخدم فوتوشوب، المبرمج يبيع هارد ديسكات، المبرمج يجلس أمام الفيسبوك...الخ].
المشكلة الثانية أن الكلية لا توجد لها قصص نجاح معلنة بما يكفي (أقصد أن لها قصص نجاح كثيرة لكن المعلن منها قليل) هذا يؤدي للحوار الآتي:
- فلان دخل هندسة بترول وتوظف في شركة باشو للبترول بمرتب 10،000 جنيه! لماذا لا تصبح مثله؟
- فلانة دخلت طب وفتح لها أبوها عيادة، أنت لست أقل من ذلك وأنا أدخر لك ثمن العيادة من الآن!
نريد أن نكون نحن أيضاً طرفاً في الحكاية، فكيف نفعل ذلك؟ الخبر الجيد أن 95% من الحل موجود بالفعل بين أيدينا ولا يبقى سوى ال5% الباقية: إن كان الإعلام المصري لا يعرف الكثير عن البرمجة (وهذا طبيعي لأي إعلام) فهو يعرف ما هو الاختراع ويحب قصص المخترعين.
انظر مثلاً لهذا المقال في جريدة الشروق عن مشروع تخرج يسمح لمستخدم الكمبيوتر بالتحكم فيه عن طريق تحريك يده. الآن انظر إلى تعليقات القراء على المقال؛ وكيف يحتفون بالمشروع ويعتبرونه إنجازاً مصرياً كبيراً...الخ.
نحن في حاسبات كل سنة تقريباً لدينا مشروع أو أكثر مثل هذا، التحكم في الكمبيوتر بتحريك اليد، والعين، والأذرع، وبالصوت، وبجهاز رسم المخ -- حتى أنني في سنة من السنين مللت هذه النوعية من المشاريع وصرت أقول للطلبة أن يفكروا في أفكار أخرى، لكن.......المجتمع لا يعرف ذلك!
[لم أقصد انتقاد صاحب المشروع في هندسة أو شيء من هذا، المشروع محترم لكن كلامي هنا عن المستوى العلمي لكليتي أنا]
لدينا مشاريع تتعامل مع اللغة العربية، لغات برمجة جديدة، مشاريع روبوت، مشاريع علمية، لكن المجتمع لا يعرف. ويظنون البلد متخلّفة :(
ماذا يكلفنا أن نأتي بكاميرا فيديو ونصور كل هذه المشاريع التي تبدو كالخيال العلمي ونضع كتالوج بكل هذا على موقع Youtube؟ ماذا يضيرنا أن نكلم كل الصحف والمحطات التلفزيونية لتأتي أيام المشاريع وترى؟ لا أتوقع أن يكلف هذا مالاً في إعلانات، بل يكون الموضوع خبراً لا إعلاناً لأن الصحفيون أنفسهم يبحثون عن مثل هذه النوعية من الإنجازات. أتخيل الآن العناوين:
- "مصر مازالت بخير، مشروعات تخرج في كلية الحاسبات تضاهي الاختراعات الأجنبية"
- "المبدعون الشباب ينقلون المجتمع المصري إلى القرن الواحد والعشرين"
- "الاختراعات تتوالى في الجامعات المصرية"
أريد أن يصير اسم حاسبات مرتبطاً بالاختراع، هذا هو التعريف الذي أريده في ذهن المجتمع.
وطالما نتحدث عن اليوتيوب، لماذا لا يكون هناك قناة على الإنترنت للطلبة والخريجين يتحدثون عن خبراتهم في حاسبات كنصائح لطلبة الثانوية العامة؛ عن مميزاتها وعيوبها وكيفية التفوق فيها لمن يدخلها؟ لا أريد إعلانات الجامعات الخاصة إياها عن المعامل والحدائق بل أريد شيئاً حقيقياً من طلبة حقيقيين عن العلم والتعلم والتخرج والتوظف. أليس هذا هو الهدف الأصلي؟
ماذا عن قصص النجاح للخريجين؟ نحن لدينا معيدون يدرسون للدكتوراة في المانيا وكندا وأمريكا..لا يكاد يكون هناك قارة في العالم إلا وهناك خريج حاسبات ذهب إليها للحصول على الدكتوراة من إحدى جامعاتها، لماذا لا يعرف أحد شيئاً عنهم؟
لدينا من الخريجين في شركة مايكروسوفت بالولايات المتحدة وكندا حتى لتظن انه هناك فرع من الكلية هناك، لمَ لا يعرف أحد شيئاً عنهم؟
ماذا عن الخريجين الذين قد أسسوا شركات؟
هناك ألف شيء آخر يمكن عمله، مثل FAQ عن الكلية تتداول الأسئلة الشائعة عن سوق العمل والنقابة والمعاهد...الخ. فكرت أصلاً في جعل هذه الوثيقة في صورة قصص مصورة comics لكي تغري الناس بقراءتها. من يبحث يجد ألف فكرة.
[تعقيب: قد أتبعت كلامي بعمل وبدأت خطوة صغيرة في هذا الاتجاه.]
العامل البشري
الكفاءات هي التي تصنع أي مؤسسة، وغياب الكفاءات هو الذي يهدمها. لا يضاهي الكفاءات في الأهمية سوى الجانب الإداري. معادلة النجاح المؤسسي هي
كفاءات عالية + بيئة إدارية مشجعة = مؤسسة ناجحة.
كان وكيل سابق في كليتنا (وأستاذ لي) يقوم بدور مهم جداً في منصبه: كان يفتش عن الكفاءات أينما كانت. في كليات الهندسة، كليات الحاسبات الأخرى، ربما الجامعة الأمريكية...في فترة من الفترات كنت لا تكاد تتحدث عن دكتور جيد في الكلية إلا ويحتمل أن يكون ذلك الوكيل هو الذي دعاه للتدريس لدينا.
نحن نحتاج إلى هذا من جديد! لابد من البحث عن الأساتذة الممتازين في كل مكان داخل وخارج مصر، ودعوتهم لتقديم المواد في الكلية. لابد من توفير المغريات المناسبة التي تجعلهم يرضون بالمجيء، ليس فقط المال لكن بيئة علمية جيدة، فرصة لتغيير المجتمع، بحث علمي حقيقي...الخ
ولابد أن تكون البيئة مهيئة لا فقط لجذبهم لكن للاحتفاظ بهم، فالشخص الكفء لديه مطلق الحرية أن يعمل في أية مكان يشاء، ولو رأى المكان لا يشجع فلا يوجد فتفوتة شيء يُكرهه على البقاء.
البحث عن الكفاءات وجذبها، توفير البيئة التي تستثمر كفاءتهم، توفير ظروف الإبقاء عليهم. هذه يجب أن تكون الأولوية القصوى لأية مؤسسة لا فقط الكليات.
هناك جوانب أخرى للمناقشة في حوار تجديد شباب الكلية؛ مثل شكل المناهج، طريقة التدريس، علاقة المواد ببعضها...وهي كلها أشياء مهمة حقاً ولا ريب جديرة بالمناقشة، لكني أرى النقاط الثلاثة السابقة نقاطاً استراتيجية لابد من الانتباه إليها، بل وأن ضبط هذه النقاط يساعد بشدة في النقاط الأخرى من مناهج وخلافه.