( هذا المقال يعتبر "الرأي المقابل" أو "الوجه الآخر للعملة" لمقال سابق هو "النهضة بين التصوير والمنطق".)
يسير الكون بعمليات حسابية.
- المعطيات او "البيانات" هي حالة الكون؛ مكان وسرعة وخصائص كل الكترون وكل فوتون وكل جزيء.
- الإجابة المطلوب حسابها هي حالة الكون في اللحظة التالية.
- والقانون هو قوانين الطبيعة مثل الجاذبية، قوانين ماكسويل للكهرومغناطيسية، الخ، وكلها في صورة معادلات رياضية.
ونحن حين نفكّر نحاول أن نسبق الكون في حساباته على أمل أن نتحكم أو نؤثر في النتيجة النهائية. لو حاولت ان ترمي الكرة نحو السلّة، فإنك تحاول ان تحسب "ماذا ستفعل قوانين الطبيعة بالكرة؟" قبل ان يحدث هذا فعلا.. وآلة الحساب هي تدريب الرمي الذي تدربته قبل ذلك -- هذا التدريب قد ترك ارقاما في جهازك العصبي وهذه الارقام تقوم بعمل simulation للرمية قبل ان تحدث،
وبهذا الsimulation يقوم جهازك العصبي بعمل حسابات عكسية ايضاً: تبدأ بالنتيجة المطلوبة ،وهي أن تسقط الكرة في السلة، وتنتهي بالرمية الصحيحة التي تؤدي لهذه النتيجة، أي أنك تستطيع تفعيل قوانين الطبيعة بالعكس في حساباتك!
كيف نقوم نحن بهذه الحسابات؟ الكون هو الذي يقوم بها بالنيابة عنا.. حين تعمل قوانين الطبيعة في مخ الإنسان، فإن الكون يقوم بنفس الحسابات التي اعتاد عليها: قوانين ماكسويل الكهرومغناطيسية وغيرها، لكن الجسم البشري منسّق بحيث أن حساب الكون لهذه القوانين يؤدي أيضا لحساب النتيجة التي يريدها صاحب المخ.. وإنه لأمر مبهر حقاً: الكون يقوم بعمل حسابات في جزء معين منه (الجسم البشري) بحيث تكون النتيجة متنبئة بحسابات جزء آخر (ماذا سيحدث عند رمي الكرة).
نفس النظام بالنسبة للكمبيوتر، وبالنسبة للكائنات الحية الاخرى: كلها تقوم بسلوك يشبه التفكير، هذا السلوك عبارة عن حسابات، وفي النهاية فإن الشيء الوحيد الذي يمكن ان يحسب أي حسبة هو الكون؛ وأي حسابات اخرى تأتي من تنسيق الجزيئات (جزيئات الكائن الحي أو الكمبيوتر) بحيث تؤدي الحسابات الكونية فيه إلى حساب الهدف المطلوب أيضاً.
وكل شيء يمكن تسميته تفكيراً يمكن في رأيي تسميته حسابات. وسوف أظهر لك هذا بأمثلة كثيرة:
- حين تلعب الشطرنج، فإنك تحسب باستمرار نتيجة كل حركة تقوم بها، وردود فعل خصمك على هذه الحركة، وردودك على هذه الردود، وهكذا، وهدفك هو أن تسبق جزئا من الكون (هو خصمك في المباراة، فكلنا أجزاء من الكون) في حساباته لكي تؤثر في النتيجة.
- حين تمسك بالشوكة لتأكل، فإنك تحسب حسابات (في حقيقتها معقدة جدا، يعرف هذا من عمل في مجال الروبوت) لكي توجه كل عضلة في جسمك بحيث تتحرك الشوكة في مسارها المطلوب
- حين تتحدث مع شخص ما، فإنك تحاول أن تتنبأ برد فعله لكل جملة تقولها له. أي انك تحسب (سواء بوعي أو لاشعوريا) أنك لو قلت كذا فسيفرح، لكن لو قلت كذا فسيغضب، ولو قلت كذا فسيصبح اكثر قبولا للجملة التي سأقولها المرة التالية، ثم من هذه الحسابات تختار ماذا تريد ان تقول.
لكن كيف يمكن لأنسان أن يتوقع كيف سيرد شخص آخر؟ نحن نتوقع هذا لأن الطرف الآخر هو الآخر يحسب حسابات بناءً على كلامنا، فلو عرفنا كيف يحسب هذا لأمكننا أن نسبقه في حساباته.
وبشكل عام فإن أي مجال يشتمل تخاطباً مع البشر، مثل التسويق، التأليف، الصحافة، الخ، يشتمل حسابات في صورة "كيف سيشعر الشخص لو قرأ أو سمع أو عرف كذا"
(ربما لهذا أنا شخص قليل الكاريزما؛ لأن 'المعادلات' التي احسب بها مختلفة عن معظم الناس، وبالتالي حساباتي خاطئة فأقول شيئا احسبه سيسرّهم لكن يضايقهم)
- ماذا عن الحسابات غير التنبؤية؟ ماذا عن شركة تحسب مرتبات موظفيها مثلا؟ هي في رأيي حسابات تنبؤية لكنها اكثر تجريدا من حساب شيء ظاهر كحركة الكرة. حين احسب لكل موظف مرتبه فأنا احسب المقدار الذي سيشعره انه أخذ مقابلا عادلا لعمله، أو يشعرني انني لم ابخسه حقه، وكل واحد فينا يشعر بهذه الاشياء عن طريق حسابات يقوم هو نفسه بها، وحين احسب المرتبات فأنا احاول ان اسبق 'حسابات المشاعر' أو 'حسابات العدل' هذه لكي تكون نتيجتها كما أتمنى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق